العرب في بريطانيا | بحرُ غزة وحارات الشّام قلب واحد

1447 رجب 4 | 24 ديسمبر 2025

بحرُ غزة وحارات الشّام قلب واحد

غزة
أميرة عليان تبلو December 24, 2025

حبُّ الوطن أعمق إحساسٍ في الرّوح، ينمو بصمتٍ مع الزمن، ويكبر كلّما تعرّض للاختبار. هو ذلك الشّعور الّذي لا يحتاج إلى إثبات، لأنّه حاضرٌ في التّفاصيل الصّغيرة: في الذكريات، في اللّهجة، في طريقة النّظر إلى الأشياء. الوطن حالةٌ وجدانيّةٌ تسكن الإنسان، تلازمه أينما ذهب، وتظهر بقوّةٍ حين يبتعد عنها قسراً.

حين نحبّ الوطن من بعيد، يتكشّف الحبّ على حقيقته، فلا يعود ارتباطاً بالمكان بقدر ما يصبح ارتباطاً بالمعنى. وهنا، يلتقي بحرُ غزّة بحاراتِ الشّام في القلب، لا بوصفهما مكانين منفصلين، وإنّما بوصفهما صورتين متكاملتين للوطن: وطنٌ يتّسع رغم الحصار، ووطنٌ يضيق في أزقّته، لكنّه يتّسع بالناس.

ما كان بحرُ غزّة مجرّد امتدادٍ أزرق على الخارطة، فلطالما غدا نافذةً مفتوحةً في مدينةٍ أُغلقت في وجهها النّوافذ. هو المتنفّس الوحيد الّذي ظلّ عصيّاً على الجدران. عنده تعلّم الغزّيّون كيف يحدّقون في الأفق بلا خوف، ولو للحظات. البحر هناك لا يمنح المتعة بقدر ما يمنح الكرامة؛ كرامة أن ترى الأفق، أن تحلم بما بعده، أن تشعر بأنّ العالم لم ينتهِ عند حدود الحصار.

على شاطئ غزّة، كانت الحياة تُمارَس بعنادٍ يشبه البطولة الصامتة. صيّادون يعرفون أنّ البحر قد يخذلهم، لكنّهم يعودون إليه كلّ صباح، لأنّ اليأس ليس خياراً. أطفال يركضون حفاةً على الرّمل، يضحكون كما لو أنّ الضحك شكلٌ من أشكال التحدّي. نساء يراقبن الموج من بعيد، وكأنّهن يودعن أبناءً غائبين.

أمّا عن الشّوق لبحر غزّة، فهو احساس بالانفتاح، إلى معنى الحرّية حين تكون بسيطةً ومجرّدةً: أن تنظر بعيداً دون أن يعترضك شيء.

وفي الضفّة الأخرى من القلب، تقيم حاراتُ الشّام، بثقلها التّاريخي وهدوئها المهيب. هناك، لا يحتاج الوطن إلى أن يصرخ ليُسمَع؛ يكفي أن تمشي في الأزقّة، فتتكلّم الجدران. لكلّ حجر ذاكرةٌ، ولكلّ باب حكايةٌ، ولكلّ نافذةٍ انتظارٌ، أمّا الحارات فمساحات حميمة صاغت العلاقات بين النّاس، وعلّمتهم كيف يكون القرب أسلوب حياة.

في الشّام، كان الزمن أبطأ، لأنّ الحياة كانت أكثر عمقاً. الجيران يعرفون بعضهم بعضاً، والأصوات مألوفةٌ، والوجوه ليست غريبةً. رائحة الياسمين هويّةٌ، وصوت المؤذّن جزءٌ من إيقاع اليوم، كما أنّ الشّوق لحارات الشّام هو شوقٌ إلى الأمان الأوّل، إلى الشّعور بأنّك مرئيٌّ، معروفٌ، ومنتمٍ.

وحين نجمع الشّوقين معاً، ندرك أنّ حبّ الوطن علاقةٌ مركّبةٌ من الألم والوفاء. نشتاق لبحر غزّة لأنّه يرمز إلى اتّساعٍ سُلب منّا، ونشتاق لحارات الشّام لأنّها تمثّل الجذور الّتي لا تُقتلع. نشتاق لما كان، لأنّه كان لنا، وسيبقى كذلك.

الغربة لا تصنع هذا الحبّ، لكنها تكشفه، ففيها نفهم أنّ الوطن هو المكان الذي نعيش به ونستشعر بوجوده، نكتشف أنّ الذاكرة أقوى من المسافة، وأنّ الصّور الصّغيرة – مشهد بحر، زقاق قديم، صوت مألوف – قادرة على أن تُبقي الإنسان واقفاً. نُدرك أنّ ما نحمله معنا ليس حقائب فقط، هو أكثر من ذلك، هو تاريخٌ شخصيٌّ لا يُفكّك.

حبّ الوطن، في جوهره، موقفٌ أخلاقيٌّ.

أن تحبّ وطنك يعني ألّا تتخلّى عنه حين يتألّم، وألّا تختصره في صورة واحدة. هو أن ترى البحر والحارة، الفرح والحزن، القسوة والحنان، وتقبلها كلّها بوصفها جزءاً من الحكاية. هو أن ترفض محو المكان من الذاكرة، وأن تُصرّ على تسميته باسمه الحقيقي، مهما تغيّرت الرّوايات.

وفي هذا السّياق، يصبح الشّوق فعل مقاومةٍ. مقاومة النّسيان، مقاومة الاعتياد، مقاومة التحوّل إلى كائن بلا جذور. أن تشتاق يعني أنّك ما زلت حيّاً، وأنّ الوطن لم يُهزم داخلك. الشّوق لبحر غزّة هو تمرّد على تحويل المكان إلى مجرّد مأساة، والشوق لحارات الشّام هو تمرّد على اختزال المدينة في الخراب.

وحين يلتقي البحر بالحارة في القلب، نكتشف أنّ الوطن قدرٌ. قد نبتعد عنه، قد نختلف معه، قد نتألّم بسببه، لكنّنا لا نخرج منه. هو يسكن اللّغة الّتي نتكلّم بها، والذاكرة الّتي نكتب بها، والحنين الّذي يفاجئنا في لحظات الصّمت.

هكذا يكون حبّ الوطن في أنقى صوره: أن يبقى حاضراً فينا، لا بوصفه ماضياً فقط، وإنّما بوصفه معنى نعيد حمله إلى المستقبل، مهما طال الطّريق.


اقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة