الصحة النفسية : كيف تستثمر القلق لصالحك؟
عندما ولد ابني بتشوه خلقي في القلب شعرت بالعجز للحظة، وتطلب الأمر إجراء عملية للقلب في تلك الفترة وكنت قلقة حينها مما يحمله المستقبل، فقد تفشل العملية في تحقيق الغاية المطلوبة، ومن ناحية أخرى فقد تكون نتيجة العملية إيجابية للغاية إذا استطعت تقديم أفضل رعاية صحية لابني.
في ذلك الوقت كان من الصعب التركيز على الإيجابيات، لكنني تعلمت استخدام قلقي للحفاظ على نشاطي، وقد ساعدني القلق على الاستمرار في التركيز، رغم أنّ وضع ابني الصحيّ كان ميؤوسًا منه، لكنني أعتقد أنّه يمكن استخدام القلق كأداة لمساعدنا على التعامل مع التحديات التي تفضها الحياة.
بالنسبة لكثير من الناس يبدو القلق سببًا للشعور بالضيق النفسيّ وقد أصبح مرادفًا للشعور بالتوتر الذي يهدد الصحة النفسية.
خلال حقبة الثمانينيات كان التوتر أكثر الأسباب إثارة للعواطف السلبية، وكان المرض الأكثر انتشارًا، فغالبية الناس كانوا يشعرون بالتوتر حتى أثناء حفلات الأعراس.
ما هو القلق وما آثاره على الصحة النفسية؟
لكن يبدو أنّ القلق هو المرض الذي يسيطر على عصرنا الحالي، إذ تظهر إحصائيات غوغل بأنّ عمليات البحث عن كلمة قلق تزايدت بنسبة 300 في المئة منذ عام 2004.
ويعاني حوالي 31 في المئة من الأمريكيين من القلق في مرحلة ما من حياتهم، ويختبرون معظم أشكال القلق سواء من القلق العام إلى الهلع واضطراب القلق الاجتماعيّ الذي يعتبر أحد أكثر أنواع القلق شيوعًا.
بعيدًا عن التشخيص الطبيّ، يبدو أننا استبدلنا كلمة توتر بكلمة قلق للدلالة على كلّ ما يشعرنا بانعدام الراحة سواء كنا ذاهبين في موعد غرامي أو مقبلين على عمل جديد، لقد أصبحت كلمة قلق تستخدم في جميع الحالات، وفي كثير من الأحيان فإنّ استخدام هذه الكلمة يمنحنا إحساسًا سلبيًّا عن التجربة التي نعيشها حتى لو لم تكن سلبية.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنّ اضطراب القلق هي أكثر ما يهدد الصحة النفسية، وتعرف الاضطرابات بكونها أكثر شيوعًا من الاكتئاب والإدمان، إذ يتمّ تشخيص مئات الملايين حول العالم باضطراب القلق.
وقد ارتفعت معدلات الإصابة باضطرابات القلق بين الشباب، وهناك العشرات من بروتوكولات العلاج المعتمد، و30 دواءً مختلفًا من مضادات القلق، بالإضافة إلى مئات الكتب التي ألفت في هذه الصدد وآلاف الدراسات العلمية الدقيقة.
وعلى الرغم من دور كلّ ما ذكر سابقًا في مساعدة الأفراد على التخفيف من حدة قلقهم، لكن لماذا لم تفلح جميع وسائل المساعدة في تقليل حجم المشكلة وانتشارها؟
إنّ أحد أبرز أسباب عدم القدرة على تحجيم ظاهرة القلق هو أنّ أخصائيي الصحة النفسية قد ضللوا الناس عن غير قصد حول طبيعة مفهوم القلق، وقد أساؤوا فهم هذه الظاهرة وهو ما سبب ضررًا مضاعفًا للصحة النفسية.
لذلك لا بدَّ من الاعتماد على نهج جديد يساعدنا على الاستفادة من القلق واستخدامه لصالحنا والتعايش معه.
لقد اكتسبت المشاعر الإنسانية السلبية سمعة سيئة، ووصفت بكونها سلوكًا تدميريًّا للبشر، لكن بعد دراسة كتاب داروين “العواطف لدى الإنسان وحيوان”، عرفنا أنّ بعض العواطف السلبية مثل الغضب والخوف والقلق يمكن أن تكون مفيدة أكثر من كونها خطيرة، وربما كانت تستخدم كأدوات للمساعدة في البقاء على قيد الحياة، تمامًا كما استخدمت اللغة، وقد صقلت هذه العواطف على مدى مئات آلاف السنوات لضمان حماية الإنسان وازدهاره، وقد تطورت هذه المشاعر بالاعتماد على أمرين رئيسين، امتلاك المعلومات عن سبب القلق، والتخطيط للتصرف حيال الأمر.
يمكن تعريف القلق بأنّه المعلومات التي نمتلكها عن المستقبل المجهول، حيث تكون كلّ الاحتمالات مفتوحة، مثل انتظار نتيجة اختبار كورونا، أو القلق بسبب موعد معين مع مدير العمل وكيفية سير المقابلة.
لكنّ القلق لا ينشأ بسبب حدوث شيء يهدد سلامتنا بالضرورة، وفي الواقع فإنّ ما نشعر به عند وقوعنا تحت تهديد معين يطلق عليه الخوف وهو يحفزنا للقتال أو الهروب تمامًا كما يحدث عند مشاهدة سمك قرش تسبح في مكان قريب.
كيف نميز القلق الطبيعي ونستثمره؟
أمّا القلق فهو شعور ونشاط حضاريّ أكثر من كونه غريزيًّا، إذا يدفعنا القلق للبحث عن وسائل للاستمرار، ويعزز شعور اليقظة لدينا ويدفعنا للتصرف بحكمة من أجل تجنب وقوع أيّ كوارث مستقبلية، ويمكنه أن يحول التوقعات الاجتماعية عن المستقبل إلى حقيقة وواقع.
إنّ شعورنا بالقلق يزيد من قدرتنا على الإبداع والابتكار، كما أنّ مواجهة الأمور التي لا نستطيع التنبؤ بنتائجها تحفز أدمغتنا على العمل بتركيز وكفاءة أكبر.
وهكذا يمكن أن نرى أنّ القلق ليس مجرد حالة خوف من المستقبل، إنّما يعزز القلق من دوافعنا لتحقيق المزيد من التواصل الاجتماعيّ، ويدفعنا إلى بذل المزيد من الجهود للوصول إلى ما نرجوه، عبر جعلنا أكثر إنتاجية، ولهذا السبب فإنّ القلق ليس سلوكًا هدامًا بل إنّه يجسد آلية البقاء.
لكن يبدو أنّ مفهوم القلق في إطار نظرية التطور، لمّا يدخل بعدُ إلى الوعي الجمعي وخاصة في الأوساط الطبية، إذ يتعامل الكثير من الأطباء النفسيين مع القلق كعدو.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ اضطرابات القلق قد يكون لها تبعات خطيرة على المرضى وهذا أمر لا يمكن إنكاره.
لكن المفهوم العام للقلق مبنيّ على مغالطتين أساسيتين:” الأولى هي أنّ الشعور بالقلق هو أمر خطير وسلبيّ والثانية أنّ مواجهة القلق ممكنة عبر منعه أو استئصاله، لذلك يشعر الكثير من الناس اليوم بأنّ القلق اليوميّ هو عبارة عن علة لا بدَّ من علاجها.
والحقيقة هي أنّ القلق هو حالة صحية وطبيعية ومفيدة ولا يهدد الصحة النفسية، باستثناء الاضطرابات الشديدة التي يمكن أن تؤثر على حياتنا اليومية.
ولكي نميز القلق الطبيعيّ والمفيد عن الأشكال السلبية الأخرى للقلق والتي تهدد الصحة النفسية، يمكننا الاعتماد على النقاط الثلاث التالية التي تساعدنا على توجيه القلق في الاتجاه الصحيّ والاستفادة منه :
الاستماع: يساعد القلق في زيادة تركيزنا ويوجهنا بالشكل الصحيح لقطع المسافة الفاصلة بين الوضع القائم حاليًا والوضع الذي نريده، أي أنّ القلق يحتوي على نوع من الأمل، ويمكن أن نرى من خلاله التهديدات المستقبلية، خلال رحلة سيرنا إلى ما نريد، وهو ما يساعدنا على تحقيق النتائج المرجوة.
ولكي يحقق القلق هذه الوظيفة فلا بدَّ أن يكون مزعجًا وأن يعمل كالمنبه الذي يخبرنا بضرورة الجلوس والاستماع لتلك المشاعر التي تعترينا ولا يمكننا تجاهلها، وفي الوقت الذي يتجنب الكثير من الناس مواجهة مشاعرهم الدفينة، فلا بدَّ لهم من الاستماع لقلقهم الخاص.
القوة: إنّ القلق يدفعنا لجمع ما يكفي من المعلومات والحلول للموضوع الذي يثير قلقنا، وبالتالي فهو يشجعنا على توجيه طاقتنا للسعي وراء الأهداف وإيجاد الطريق المناسبة لتحقيقها، كما كان أخذ المزيد من الوقت في التفكير بأفضل الوسائل لتحقيق الأهداف يساهم بتحسين المزاج ويزيد من التركيز والقابلية للتعلم، وتستمر هذه الفوائد لسنوات أو حتى لأشهر.
عندما نواجه قلقنا الشخصيّ بالسعي وراء الأهداف وترتيب الأولويات، عندها يتحول القلق إلى شجاعة، وبالتالي فإنّ شعور القلق يزيد من زخمنا ويطلق العنان لقوتنا.
تجاهل القلق: قد لا يكون القلق مفيدًا في بعض الأحيان وقد يبدو سببه مبهمًا في أحيان أخرى، فقد يحتاج المرء إلى وقت طويل لاكتشاف الدافع وراء شعوره بالقلق، فالحياة مليئة بالعقبات والتحديات وليس من الضروري أن يستطيع المرء فهم جميع أسباب قلقه، ففي كثير من الأحيان يكون الشعور السلبيّ مستعصيًا على الفهم ولا نستطيع إدراك سببه، وقد يؤدي ذلك إلى الاستغراق في التفكير بالمستقبل، ويزيد من التوتر وينتهي بالشعور بالإرهاق.
إنّ أفضل طريقة لتجنب القلق هي ممارس الأنشطة التي تساعدنا على العيش في اللحظة، كقراءة القصائد المفضلة أو الاستماع للموسيقا التي نحبها، وفي بعض الأحيان التمرن على مهارات جديدة أو المشي، أو التواصل مع صديق للحصول على وجهة نظر أخرى حول أمر معين.
إنّ ممارسة مثل تلك الأنشطة يساعدنا في بناء وعينا العاطفي، للتعامل مع مشاعرنا السلبية بدلًا من التفاعل معها، ولا بدَّ أن نطلب الدعم حين نحتاجه للحفاظ على الصحة النفسية.
الشعور بالقلق الإيجابيّ
إنّ المشكلة إذًا لا تكمن في القلق، إنّما القلق هو منبه يخبرنا بأننا نواجه حالة من انعدام اليقين تجاه المستقبل لكي نرتقي إلى مستوى التحدي، كما أنه يحثنا على اتباع الطرق السليمة لتغيير حياتنا نحو الأفضل أو لطلب الدعم عندما نحتاجه.
إنّ المشكلة الأساسية تكمن في اعتقادنا بأننا لا نستطيع إدارة القلق، وبالتالي فنحن لا نتعلم استخدامه لصالحنا وليس لدينا اطلاع على استراتيجيات علاج القلق، وفي الوقت الذي نزداد تمسكًا بمعتقداتنا السلبية حول القلق، فإننا نصبح أكثر عرضًة للإصابة باضطرابات القلق.
وبالنسبة للمصابين باضطراب القلق فإنّ الأمر ليس متعلق بشدة القلق الذي يشعرون به، وإنّما في تفكيرهم بأنّهم قادرون على التخلص من القلق عبر تجاهل ورفض المشاعر التي تثير قلقهم مما يهدد الصحة النفسية، ويعيق ذلك التواصل مع الآخرين ويُحرم مرضى القلق من عيش حياة مرضية.
إنّ النهج المتبع في التعامل مع القلق يلعب دورًا كبيرًا في تعافي المصابين باضطرابات القلق بغض النظر عن شدة هذه الاضطرابات.
باختصار، لا بدَّ من تعلم كيفية تحويل القلق إلى حليف لنا على الرغم من أنّ فكرة القلق قد تبدو مخيفة في أحيان كثيرة، ولكن يجب نتذكر أنّه لطالما كان مصدرًا للإبداع، وهو يساعدنا على إنقاذ أنفسنا، وفي هذا الصدد قال الفيلسوف الدنماركي سوين كيركيغادر:” إنّ من تعلم أن يقلق بالطريقة الصحيحة، قد تعلم كلّ شيء”.
اقرأ أيضاً :
أطفال عالقون في قوائم الانتظار لسنوات للحصول على الرعاية النفسية!
الرابط المختصر هنا ⬇