العرب في بريطانيا | الصّبر… جسر الأرواح نحو الفجر

1447 صفر 22 | 17 أغسطس 2025

الصّبر… جسر الأرواح نحو الفجر

الفجر

في صمتِ اللّيلِ حين تُطفأُ المصابيحُ وتغدو الأرواحُ مثقّلةً بجراحِها، يتسلّلُ الصّبرُ كنسمةٍ خفيّةٍ تُعيدُ للقلبِ أنفاسَه بعد طولِ اختناق، وما الصّبر إلّا فعلُ مقاومةٍ عميقةٍ، وصوتُ إيمانٍ يتردّدُ في الدّاخلِ حين تصمتُ كلُّ الأصوات، وهو رحلةُ الرّّوحِ في دروبٍ موحشةٍ تتخلّلها العواصفُ والخيباتُ والفقدُ والخذلان. إنّه مِعراجُ الأرواحِ إلى يقينٍ أعلى، تتطهّرُ فيه النّفسُ من ضعفِها وتتعلّمُ كيفَ تُمسِكُ بيدِ اللهِ حين تنفلتُ كلُّ الأيادي.

وفي فلسفةِ الصّبرِ جمالٌ خفيّ؛ فكم من جرحٍ غائرٍ صار نافذةً للضّوء، وكم من دمعةٍ مكلومةٍ أنبتت في القلبِ زهرةَ حكمةٍ لم تكن لتولدَ لولا الألم، كما أنّ الصّبر جناحٌ يُحلّقُ بالإنسانِ فوقَ ابتلاءاتِه، حتّى يرى البلاءَ بعينِ الحكمةِ لا بعينِ الجزع.

وقد علّمنا التّاريخُ أنَّ الصّبرَ سلاحُ العظماءِ؛ فما ارتقى نبيٌّ ولا مصلحٌ إلّا وكان الصّبرُ مركبَهُ في أمواجِ الاضطهادِ والجراح.. موسى عليه السّلام شقَّ البحرَ بعصاهُ بعد صبرٍ طويلٍ على ظلمِ فرعون، وأيّوبُ عليه السّلام صار آيةً خالدةً في الثّباتِ على البلاءِ حتّى صار اسمهُ يُضربُ بهِ المثلُ في الصّبرِ الجميل.

والصّبر من زاويةٍ أُخرى حِوارٌ صامتٌ بينَ العبدِ وربّهِ، يُناجيهِ في جوفِ اللّيلِ، ويستودعُهُ وجعَهُ وهو واثقٌ أنَّ الله لن يخذله. هو يقينُ القلبِ أنَّ كلَّ غصّةٍ لها ميعادُ جبرٍ، وأنَّ الظّلامَ مهما طالَ لا بدَّ أن ينحني أمامَ شعاعِ الفجر.

وإذا أردتَ أن ترى الصّبرَ في أبهى معانيه، فانظر إلى أمٍّ فقدت فلذةَ كبدِها، ثمّ رفعت يديها وقالت: الحمدُ لله، وانظر إلى جريحٍ مُلقى على سريرِ الألمِ يُبشّرُ من حولَهُ أنَّ الغدَ سيكون أجمل. هؤلاء أبطالُ الرّوحِ الّذين فهموا سرَّ الحياةِ فأدركوا أنَّ الألمَ امتحانٌ للرّوحِ لا كسرٌ لها.

ومن أعظمِ أسرارِ الصّبرِ أنّه يُغيّرُ ملامحَ الابتلاءِ؛ فما عادَ الوجعُ وجعاً إذا تحوّلَ إلى سُلَّمٍ يرتقي بهِ القلبُ إلى مراتبِ الرّضا، وما عادَ الفقدُ موتاً إذا صار لقاءً مؤجّلاً في حضرةِ الرّحمن. حين نصبرُ، نحنُ نؤسّسُ في غيبٍ لا يراهُ إلّا اللهُ، ليأتيَ يومٌ يُقالُ فيهِ: هذا جبرُ اللهِ الّذي وُعِدْتُم به.

وفي دروبِ الشّتاتِ وتيهِ الغربةِ، تُثقلُ المهاجرُ أرواحَ أبنائها بالشّوقِ والحنينِ، ويشعرُ القلبُ بالعجزِ أمامَ نيرانِ فلسطينَ المشتعلةِ وأوجاعِها الّتي تطرقُ الضّميرَ كلَّ يومٍ، لا يبقى للإنسانِ سوى أن يتعلّمَ الصّبرَ ليبقى واقفاً رغمَ الرّياح، وليُمسكَ بجمرةِ الأملِ رغمَ أنفاسِ الانكسار؛ فالصّبرُ في الشّتاتِ وعدٌ سرّيٌّ بأنَّ للغربةِ آخر، وللظّلمِ زوال، وأنَّ فلسطينَ ستنهضُ كما ينهضُ القلبُ كلَّ مرّةٍ من حطامه.

الصّبرُ إذاً مدرسةُ ارتقاءٍ تُعلّمُنا كيفَ نَسمو فوقَ الألمِ، وكيفَ نخرجُ من العاصفةِ بقلوبٍ أنقى وإيمانٍ أعمق، وهو مفتاحُ الحرّيةِ من قيودِ الجزعِ والشّكوى، وسرُّ السّلامِ الدّاخليّ الّذي لا تهزّهُ رياحُ البلاء.

فلنرفعْ رايةَ الصّبرِ في حياتِنا، كتاجٍ من نورٍ يُذكّرُنا بأنّ من صبرَ نالَ وعدَ الله.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

التعليقات

loader-image
london
London, GB
4:20 pm, Aug 17, 2025
temperature icon 25°C
clear sky
47 %
1022 mb
15 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 0%
Visibility 10 km
Sunrise 5:49 am
Sunset 8:20 pm