في حضرة الغياب.. رثاء للدكتور هادي بدران الذي آثر غزة على مرضه

رحل عنّا الطبيب المؤدب، الإنسان الراقي، الدكتور هادي بدران، بعدما خطّ في عامه الأخير أروع صفحات التضحية والوفاء، وسطّر في دفتر الإنسانية سطورًا لا تُمحى من البذل والإقدام، وهو في ذروة ألمه ومعاناته.
تعرفتُ إليه في وقت بدا متأخرًا زمنيًا، لكنه كان مبكرًا قلبيًا. فما إن بدأت علاقتنا حتى توثقت سريعًا، كأن بين أرواحنا سابق عهد. تعمّق التواصل، وتعاظم الاحترام، وتكشفت لي صفات قلّ أن تجتمع في رجل: خُلق جم، وتواضع أصيل، وعزيمة لا تعرف الكلل، وأدب رفيع لا يفارقه في حديثه أو فعله.
كان يحمل في صدره ورمًا خبيثًا، غزا رئتيه وبلغ مرحلته الرابعة، وهي أعتى مراحل المرض، لكنك إن جالسته لم تشعر بغير التفاؤل. لم يكن يحدّثك عن ألم، بل كان يزرع الأمل، يبتسم في وجه الوجع، ويضحك ليُطمئن من حوله. كان يرى مرضه وكأنه زكام عابر، ويصغّر من شأنه لا تهوينًا، بل إيمانًا وتسليمًا.
ثم جاء قراره الذي لن يُنسى: السفر إلى غزة، متطوعًا لعلاج الجرحى والمرضى وسط نيران الحرب والحصار. وقف الأطباء وأسرته وأحباؤه، مذهولين من عزيمته، محاولين ثنيه، راجين بقاءه إلى جوار سريره الأبيض… لكنه أبى. رفض أن يكون شاهدًا صامتًا، ومضى.
مضى ليقدّم ما يستطيع من دواء وأمل، وسط جراح غزة النازفة. عالج، وساند، ورفع المعنويات. لم يكن مجرد طبيب، بل كان بلسمًا يمشي على قدمين. ثم عاد، لا ليشكو، بل ليحكي، لا ليتوجع، بل ليُلهم. عاد ليشجع الآخرين على البذل، وليؤكد أن الإنسان لا يُقاس بضعف جسده، بل بقوة قلبه.
وفي لحظات مرضه الأخيرة، كنت أزوره لأنزع عنه بعضًا من التعب، فأجده هو من يرفع عني الحزن، ويغمرني بأمل لا أدري من أين يأتي به. كان، رحمه الله، يشبه نبعًا لا ينضب، يُرويك وأنت تظنه هو المحتاج لمن يُروى.

لا أدري، هل كُتب علينا في هذه الحياة أن نفقد سريعًا أولئك الذين أحببناهم بصدق؟ كأن الدنيا تأبى أن تمنحنا متسعًا لنتشبع من وجودهم. كلما تعلق القلب، اقتربت ساعة الرحيل. وكأن هذه الدنيا، في عجالتها، لا تمنح الورد إلا موسمًا قصيرًا، ثم تترك لنا عبقه في الذاكرة.
نندم. نندم على كل دقيقة لم نعشها معهم، على كل وصال أخّرناه، وكل لقاء أجلناه. نقول: “ليتني عرفته منذ زمن”، “ليتني كنت أقرب”. لكن “ليت” لا تُرجع غائبًا، ولا تُعيد زمنًا فات.
كان الدكتور هادي بدران، رحمه الله، من تلك النفوس النادرة التي تشبه الورد النقي: حضورها بهيّ، وعطرها لا يُنسى، لكنها لا تبقى طويلًا. ترحل وهي في قمة عطائها، تودعك وهي تبتسم، وتتركك حائرًا أمام فقدها، كأنك فقدت شيئًا من نفسك.
رحمك الله يا دكتور هادي، وجعل مرضك رفعة لك، وسعيك في غزة شاهدًا لا يغيب، وجهادك مدادًا يفيض في صحيفتك. كنت صورة حقيقية للرحمة والعطاء، وستبقى سيرتك نبراسًا لكل من عرفك.
سنفتقدك كثيرًا، لكننا نعلم أن الأرواح العظيمة لا تموت، بل تترك أثرًا لا يُمحى… وتبقى فينا، ما بقي الوفاء.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇