العرب في بريطانيا | من الجمر إلى القمم: كيف تصنع المحن عظماء الأمم؟

1447 صفر 22 | 17 أغسطس 2025

من الجمر إلى القمم: كيف تصنع المحن عظماء الأمم؟

مقالArtboard-2-copy-3_2 (3)
عادل يوسف August 2, 2025

لفتتني دراسة قامت بها إيمي تشوا مع زوجها جيد روزفيلد — أستاذين في كلية الحقوق بجامعة ييل الأميركية — عن سر نبوغ وتفوّق بعض الأقليات في الولايات المتحدة دون غيرها. فقد لاحظ الباحثان أن اليهود، مثلاً، رغم تعدادهم الذي لا يُشكّل أكثر من 1.7٪ من النسيج الأميركي، فإن ثُلث الفائزين بجائزة نوبل، وأكثر من نصف الحاصلين على جائزة بولتيزر — أرفع جائزة صحافة في العالم — هم من أبناء الجالية اليهودية، ناهيك عن حضورهم القوي واللافت في المحكمة العليا وصناعة القرار في الكونغرس الأميركي. وليس ببعيد عنهم، أغلب المدراء التنفيذيين لشركات “سيليكون ڤالي” — الشركات العابرة للقارات — هم أميركيون من أصول آسيوية من الهند تحديدًا.

بعد وقت طويل، خلُص الباحثان إلى بعض السمات المشتركة بينهم؛ وما يهمني منها، وأذكره من باب “نحن أولى بموسى منهم”:

التحكم في الاندفاعات

وهي القدرة على مقاومة المغريات، خاصة خيار الخضوع، والقدرة على مواجهة الصعاب بدلاً من الانسحاب والاستسلام. بعبارة أخرى، كلما حورب الإنسان وشعر بالاضطهاد في أمر، كان أكثر صلابة في إثبات حقوقه وكفاءته.

فكما هو معلوم، الطائفة اليهودية عانت الاضطهاد في ألمانيا وهتلر وأوروبا عمومًا؛ من قتل وتشريد وتهميش. حتى قيل إن أحد أسباب دعم الغرب لهم في احتلال فلسطين هو الخلاص منهم! هذا الماضي المرير ولّد عندهم تمسكًا عجيبًا بلغة ميتة سريريًا، عملًا دؤوبًا، وإصرارًا. حتى صاروا من أرباب المال في العالم أجمع، يُمسكون بخيوط اللعبة من كل جانب؛ فلا نجاة إلا من “يسبح بحمدهم”، والويل والثبور لمن لم يُغرِض الطرف عن مثالبهم.

قلت: وهذا معلوم ملاحَظ. فقد تجد أحدنا يسكن بجوار الحرم المكي، لكنه يزهد في الصلاة فيه، وقد يكون مقصرًا في أموره عامةً. لكن لو نظرت لحاله بعدما انتقل إلى الغرب، ستُدهشك آثار الصحوة البادية على محيّاه، ملازمًا لمصلى صغير في زاوية تبعد آلاف الكيلومترات عن منزله. لو فتشت، ستكتشف أن أحد الأسباب هو سعي اليمين المتطرف للبحث في كومة الغش عن سلبيات المسلمين، وإلقاء التهم عليهم حتى في ثقب طبقة الأوزون.

فالإنسان بطبعه ينفر من التأطير، ويعادي التهميش، ويألف التربيت والترحيب، ويأنس بالتشييد.

وزادني كلفًا في الحب أن منعت
أحب شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا

فكلما وجد المرء نفسه محاطًا بسهام النقد، كلما شمّر عن ساعد التحدي ولبس جُبّة العناد. وعلى النقيض، كلما كانت الأيام أرحب والأوقات أسهل، كلما لم يجد ما يدفعه للنهوض من سريره. وبضدها تتميّز الأشياء.

وأقسم بالله، إني لأطيل العجب ببعض أبناء بني الأصفر؛ قد خلّدوا في الأرض والسماء، وآخرين منهم رضوا بالدون من الأعمال والمهام. أما علموا أن عبيدًا لله في الضفة الأخرى من الكوكب يضربون أكباد المحيطات حتى يحظوا بليلة من لياليهم الباهتة؟!

لكن إذا عاينت الأمر بمنظارهم، سيُجيبك أحدهم:

“بربك، لمَ عليّ الشقاء بينما أرفل بحرية مطلقة، بدعم حكومي كامل، وأساطيل إعلام تحرك جحافل أقلامها لتواسي شقراء ماتت قطتها؟”

ستُدرك بعدها صدق المعادلة الفيزيائية: لكل فعل ردّ فعل مساوٍ له في المقدار ومُعاكس له في الاتجاه.

في محاولة للاستفادة من تلك الدراسات، قلت: مدار الأمر كله هو تفعيل مصطلح “معاندة النفس”. فكلما فترت الهمة عن بلوغ الأماني ورضيت بالكسل، كان الأجدر بنا الضغط على زنّاد العناد؛ فلولاه لما امتلأت صفحات التاريخ بالمؤثرين والناجحين، ولما جاد الزمان بابن تيمية وابن حنبل وآخرين. وهو ما أراد الحديث الشريف قوله: “والعاجز من اتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني.”

إسباغ المكاره على القلب

نص كثيف، صاغه الكاتب الأنيق محمد أحمد بارحمة وهو يروي قصة صديق له وصفه بعبارة أخّاذة: “هو من البقيّة الباقية الذين لم تقتلعهم رياح الارتخاء.”
ويضيف: في الحج الماضي تناولنا العشاء معًا، وحدثني عن برنامجه الثقافي في ذي الحجة (ثمان ساعات) يقضيها في القراءة والسماع والبحث، ويعدّها كالدوام الوظيفي.

ثمان ساعات لا أظنها مستساغة أو مستريحة، لكنها إسباغ للمكاره على القلب.
وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرَك بالنعيم، وأن من آثر الراحة قد فاتته الراحة — كما قال ابن القيم. وللشاعر السمُّؤال (قبل الإسلام) قصيدة غاية في الروعة، مطلعها:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيلُ

وأما بعدما بلغني أن جامعة ستانفورد في ستينيات القرن الماضي أقامت تجربة سُميت مؤخرًا (تجربة المارشميلو)، حيث يضعون الطفل في غرفة بمفرده، وعنده قطعة حلوى. إن صبر لمدة 15 دقيقة فقط، ظفر بقطعتين، وإلا فلأخذ ما أكل فقط.

جُلّ الأطفال تناولوا الحلوى في الدقيقة الأولى، وقلّة قليلة منهم بقية صامدة وجازت القطعتين.
راقبوا سلوكهم لمدة تزيد على خمسين سنة، ووجدوا أن المجموعة التي تحلّت بالصبر وآثرت الحزم تدرّجت في منصات التتويج، بينما البقية تاهوا في دوامة الحياة. ولا يظلم ربك أحدًا.

ومن لطائف العارفين أن مناسبة ذكر قوله تعالى: (“الله نور السماوات والأرض…” في سورة النور)، جاء بعد آيات “غض البصر” لأنهم حين كبحوا جماح فضول النظرات، كساهم المولى نورًا من عنده.

والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليلٍ، تقنعُ

فيا من غدت أيامه باهتة ولياليه فاترة، وتقوّست وسادتهُ من كثرة الترديد — وما أُبريء نفسي منها — ويامن تسربت السنون من بين يديه وما برح مكانه قط، ويامن ضاعت أوقات شبابه قبل أن يبلُغ المنى، ويامن بقي على بوابة العقبات يردد: “إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها…” — هل أدلك على شجرة الخلود وملكٍ لا يبلى؟

عاند نفسك.

 


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
8:09 am, Aug 17, 2025
temperature icon 16°C
clear sky
76 %
1025 mb
5 mph
Wind Gust 7 mph
Clouds 0%
Visibility 10 km
Sunrise 5:49 am
Sunset 8:20 pm