كيف غطى الإعلام البريطاني نبأ وقف إطلاق النار في غزة؟

كان من المفترض أن يكون إعلان وقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس، في 15 يناير 2025، لحظة تأمّل إنساني في حجم الكارثة التي عاشتها غزة، بعد 15 شهرًا من القصف المتواصل (466 يومًا)، راح ضحيته أكثر من 46 ألف شهيد فلسطيني، ودُمّرت فيه أحياء بأكملها.
لكن بدلاً من ذلك، صاغت معظم وسائل الإعلام البريطانية هذا الإعلان ضمن إطار دبلوماسي متوازن، مغفلةً معاناة الفلسطينيين، لتصبح مجرد خلفية باهتة في مشهد صراع القوى الجيوسياسي.
اتضح التناقض بجلاء؛ ففي حين أُغفلت المأساة الإنسانية في غزة أو اختُزلت في عبارات عابرة، انصبّ التركيز على تفاصيل بنود الهدنة والمكاسب السياسية للأطراف الفاعلة.
ويشوب التغطية البريطانية قصور جلي في نقل التحولات الميدانية الجوهرية وإغفال حقائق بالغة الأهمية. فقد تجاهلت هذه التغطيات نجاح المقاومة في انتزاع المطالب ذاتها التي رفضها نتنياهو في مسودة مايو 2024، مع فارق في ارتفاع حصيلة قتلى الأسرى الإسرائيليين. ويضاف إلى ذلك إخفاق المساعي الإسرائيلية في شق أوصال قطاع غزة وفصل شماله عن جنوبه، مما يؤكد صمود المقاومة وقدرتها على إفشال المخططات العسكرية للجانب الآخر.
يثير هذا التناول الإعلامي تساؤلات جوهرية: ما هي القصة التي تُحكى للجمهور البريطاني؟ ومن هي الأطراف التي تُسلب منها روايتها؟
يتناول هذا المقال تغطيات أبرز وسائل الإعلام البريطانية—ذا تايمز، وفايننشال تايمز، وذا غارديان، وبي بي سي، وغيرها—لتكشف كيف يُعاد تشكيل الأحداث، وأحيانًا تشويهها أو توظيفها.
ذا تايمز: تبرئة ضمنية وتوازن زائف

ركزت صحيفة ذا تايمز على تصوير وقف إطلاق النار كأنه نتيجة “مفاوضات متكافئة بين طرفين”، وهي مقاربة تغافلت عن عمق الأزمة الإنسانية في غزة. وجاء العنوان: “وقف إطلاق النار في غزة يزرع بذور صراع مستقبلي. فماذا الآن؟” ليُوحي بأن الهدنة نفسها، وليس العدوان، هي ما يهدد الاستقرار في المنطقة.
خلا التقرير من تفاصيل حول معاناة المدنيين، والنزوح الجماعي، والدمار الهائل للبنية التحتية، واستُبدلت هذه الحقائق بتناول يتعمق في الجوانب السياسية والاستراتيجيات المزعومة. بدا الفلسطينيون هنا وكأنهم بيادق في لعبة سياسية، لا ضحايا لعدوان شامل.
تُجسّد هذه المقاربة نمطًا متكررًا في الإعلام الغربي يسعى إلى تقديم رواية “متوازنة”، حتى عندما يكون أحد الأطراف—غزة—هو الضحية الواضحة للجرائم والانتهاكات.
ميدل إيست آي: صوت الإنسانية الفلسطينية
جاءت تغطية ميدل إيست آي بعنوان: “الحياة ستبدأ من جديد: الفلسطينيون في غزة يتفاعلون مع إعلان وقف إطلاق النار” كاستثناء لافت، حيث أفسحت المجال لقصص النازحين التي نُقلت بأصوات أصحابها، ليُعبّروا عن أملهم الحذر وسط أحزانهم العميقة. نقل الصحفيان محمد الحجار وأحمد عزيز شهادات حية عن الدمار: منازل مهدّمة، عائلات مشردة، ومجتمعات بأكملها شُرّدت.
وصفت الصحفية شروق شاهين كيف بات الموت جزءًا يوميًا من عملها الصحفي بقولها: “أتوق إلى صباح يخلو من صور الشهداء ومن مشاهد وداع الأحبّة.”
رفض التقرير أسلوب التخفيف من حجم الجرائم المرتكبة، مبرزًا صمود الفلسطينيين ومعاناتهم في آن واحد، ومذكرًا القارئ بأن قصة غزة ليست مجرد صراع سياسي، بل حكاية إنسانية مؤلمة عن البقاء والمقاومة.
بي بي سي: حياد يُخفي الانحياز
في تغطيتها الصادرة يوم 15 يناير، ركّزت بي بي سي على تبادل الاتهامات بين “الطرفين” بشأن خروقات الهدنة، في سردية توحي بتكافؤ القوة بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين المحاصرين. وعلى الرغم من ذكر أعداد الضحايا، غابت عن التغطية أي إشارات توضّح اختلال موازين القوة، لتبدو المعركة وكأنها مواجهة متكافئة، لا اعتداء أحادي على منطقة منكوبة.
كما تجاهلت التغطية سياق الحصار الممتد منذ سنوات، والاتهامات الدولية بارتكاب الاحتلال جرائم حرب، ما جعل المأساة الفلسطينية تبدو وكأنها واقع عابر في صراع مستدام، وكأن التقارير كُتبت لجمهور اعتاد على رؤية الصراع من دون إدراك حجم الظلم الواقع على الفلسطينيين.
الغارديان: قراءة من زاوية السياسة البريطانية
توجّهت تغطية الغارديان نحو زوايا السياسة الداخلية، وركزت على تصريحات رئيس الوزراء كير ستارمر. ورغم الإشارة إلى اعترافه بمعاناة الفلسطينيين، إلا أن خطابه تركز على تحميل حركة حماس مسؤولية التصعيد، مع تسليط الضوء على الانقسامات داخل حزب العمال بشأن الموقف من غزة، دون انتقاد صريح للدعم البريطاني المستمر للاحتلال عسكريًا ودبلوماسيًا.
تُبرز هذه التغطية حدود السقف التحريري لوسائل الإعلام الليبرالية في بريطانيا، حيث تُقدّم الانتقادات بحذر، مصحوبة بتحفظات، لضمان بقاء السردية ضمن حدود مقبولة لدى جمهور متردد في تأييد التعاطف العلني مع القضية الفلسطينية.
سكاي نيوز وآي نيوز: تقارير إنسانية محدودة
تناولت سكاي نيوز وآي نيوز الوضع الإنساني في غزة بشكل موجز ومهمل، حيث أُدرجت أرقام الضحايا وأزمات النزوح وقيود المساعدات الإنسانية، لكنها لم تكن محور التغطية، بل أُلحقت بتقارير سياسية ركّزت على الاستقرار الإقليمي. تجاهلت هذه التغطيات الدعوات الحقوقية لمحاسبة الاحتلال على ما وُصف بجرائم حرب، وبدت التغطية كأنها تبرر الموقف الدولي المتردد في إدانة الاحتلال بشكل مباشر.
ردود السياسة البريطانية
في بيان رسمي، رحب ستارمر بالهدنة واصفا إياها بـ”الخبر الذي طال انتظاره”، مؤكداً أن “الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني كانا في أمس الحاجة إليه”. غير أن رئيس الوزراء البريطاني حرص على تأطير موقفه في سياق أحداث السابع من أكتوبر، واصفا إياها بأنها “أعنف مذبحة للشعب اليهودي منذ الهولوكوست”، متجاهلا أكثر من 46 ألف شهيد فلسطيني.
وفي المقابل، أصدرت الكتلة البرلمانية المستقلة التي يترأسها جيريمي كوربين بيانا منفصلاً يتخذ موقفا أكثر انتقادا للسياسة البريطانية.
ويوثق البيان الإبادة الجماعية المنهجية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني. وأشار البيان إلى أن “مشاهد الرعب والوحشية التي شهدناها على مدى الأشهر الماضية ستظل تطاردنا إلى الأبد”، في إشارة إلى حجم الدمار الذي طال شعب غزة والبنية التحتية المدنية في القطاع المحاصر.
وفي تحدٍ صريح للموقف الرسمي البريطاني، وجهت الكتلة المستقلة اتهامات مباشرة للحكومة البريطانية بالتواطؤ في “جرائم حرب”، مطالبة بتحقيق دولي شامل وتعاون كامل مع المحكمة الجنائية الدولية. وشددت على أن “أيدي القادة السياسيين ملطخة بدماء لن تُمحى أبدًا”، في إشارة إلى المسؤولية المباشرة عن تأخر وقف إطلاق النار.
الدلالات السياسية والإعلامية
تعكس هذه السرديات الإعلامية إشكاليات عميقة في التغطية الغربية:
- توازن زائف يخفي الحقائق: ما زالت وسائل إعلام كـذا تايمز وبي بي سي تقدّم الصراع كأنه مواجهة متكافئة، لتطمس حقيقة المعاناة المستمرة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال والحصار.
- تغليف المأساة بلغة مخفّفة: إن التقليل من حجم الكارثة الإنسانية أو تجاهلها يساهم في تقويض صورة الضحية، وتعزيز روايات تُجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم أمام الرأي العام.
- تحويل الأنظار عن الجاني: كثير من التغطيات تُحمّل حركة حماس مسؤولية التصعيد، متغافلة بذلك عن مسؤولية الاحتلال في قصفه المفرط وعنفه الممنهج.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
دعهم وغيظهم يعضون الأنامل،،، لم تنفعهم مسيرات التجسس الأحدث في العالم لنقل أي معلومة مفيدة لإسرائيل عن أماكن احتجاز الأسرى…