العرب في بريطانيا | فلسطين، البوصلة الّتي تحدّد موقفنا أمام أنفسنا،...

1447 صفر 24 | 19 أغسطس 2025

فلسطين، البوصلة الّتي تحدّد موقفنا أمام أنفسنا، وكينونة الرّاحة في ضمائرنا..

مقالArtboard-2-copy-3_2 (8) (1)

ثمّة قضايا تمرّ في التّاريخ كالأمواج، تُثير ضجيجاً ثمّ تخبو، وهناك قضايا تُولد لتبقى، تُطارد الإنسان جيلاً بعد جيلٍ، وتكشف معادن النّفوس، وتضع كلَّ امرئٍ أمام امتحانٍ لا مفرَّ منه، وفلسطين، بكلّ ما تحمله من دمٍ وجراحٍ ومقاومةٍ وصبرٍ، لم تكن يوماً قضيّةً سياسيّةً، ولا ملفّاً على طاولة الأمم، إنّما هي سؤالٌ أخلاقيٌّ ووجوديٌّ، وسؤالٌ ستطرحه الأجيال القادمة، يوم يقف الخلق عند قراءة سطور التّاريخ، متسائلين عن مواقفنا آنذاك..

هي كذلك ليست قضيّةً دينيّةً فحسب، وإن كانت الدّين في جوهرها، إنّما قضيّةٌ إنسانيّةٌ قبل كلّ شيءٍ، تمتحن إنصاف البشر، وتكشف صدق القيم الّتي يرفعها العالم في شعاراته؛ فهي تختصر معنى العدالة والحرّيّة، وتضعنا أمام الحقيقة: من يغضّ الطّرف عن إنسانيّة الفلسطينيّ اليوم، لن يكون أصدق في إنصاف أيّ مظلوم غداً.

سيُقال لكلٍّ منّا وإن كنّا أمواتاً: ماذا فعلت حين نُكبت فلسطين؟
هل حملتَ همَّها في قلبك؟ هل سخّرت قلمك، مالك، جهدك، أو حتّى دموعك ودعاءك لأجلها؟ أم أنّك أدرْت ظهرك، وتذرّعت بأنّ الأمر أعظم من قدرتك، فاكتفيت بالصّمت وكأنّك لم تُؤمر بموقفٍ

إنّ الله لم يطالبنا جميعاً بأن نكون شهداء على أرضها، ولكنّه طالبنا ألّا نكون موتى الضّمير ونحن نراها تنزف، فمن لم يهتزّ قلبه لصرخة طفلٍ تحت الرّكام، أو لأنين أمٍّ على فلذة كبدها، فبأيّ وجهٍ يلقى الله غداً؟

إنّ فلسطين بوصلةٌ للوعي، ومعيارٌ لصدق الإيمان. كيف يُتصوَّر أن نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ﴾ ثمّ نمضي غير مبالين؟ وكيف نصلّي خمساً في اليوم ثمّ نغفل عن مسجدٍ أُسرى إليه نبيُّنا؟ أليس في ذلك خللٌ في الفهم أو زيفٌ في الإيمان؟

وسنُسأل أمام الله: لمَ جعلنا دماءَ الفلسطينيّ أرخص من دمائنا؟ ولمَ اعتدنا مشاهد القصف وكأنّها من طبيعة الكون؟ لمَ عجزنا عن كلمةٍ صادقةٍ في مجالسنا، وعن تربية أبنائنا على حبّ فلسطين والغيرة عليها؟ سيُسأل الزعيم عن جيشه، والعالم عن علمه، والكاتب عن قلمه، والغنيّ عن ماله، والضّعيف عن دعائه. كلٌّ بما آتاه الله، لا أكثر ولا أقلّ.

ويا لَخزي الموقف إن وقف أحدنا يوم الحساب، فإذا سجلّه صامتٌ، وصفحته خاليةٌ، وكأنّه لم يمرّ من الدّنيا جرحٌ اسمه فلسطين. ذلك صمتٌ لا يُغفر، وتخاذلٌ لا يُستر. فإن لم يكن لنا سهمٌ في تحريرها، فلنحرص ألّا يكون لنا سهمٌ في خذلانها.

إنّ الموقف من فلسطين هو في جوهره موقفٌ من الحقّ ذاته. فمن سكت عن الحقّ حين عُلّق على أسوار القدس، سيسكت عنه حين يُعلَّق في أيّ مكانٍ آخر. ومن باع دماءها بأثمان الدّنيا، فقد باع كرامته، وإن لم يشعر. ولعلّ الحكمة الإلهيّة في بقاء جرح فلسطين مفتوحاً أنّها تذكّرنا دوماً بأنّ الدّنيا دار ابتلاءٍ، وأنّ الله لا ينظر إلى قوّة العدوّ بقدر ما ينظر إلى صدق عباده في مواقفهم.

لسنا مطالبين أن نهزم الطّائرات والدّبابات بأيدينا العارية، لكنّنا مطالبون أن نثبت أنّ قلوبنا ما زالت تنبض بالغيرة، وألسنتنا ما زالت تعرف لغة الحقّ، وأيدينا ـ مهما قصّرت ـ لم تتلوّث بمصافحة الظّلم أو تبريره.

فلتكن فلسطين ميزاناً في حياتنا: إن ذكرناها ارتقينا، وإن نسيناها هوَينا. ولنُدرك أنّ الله لا يسألنا عن النّتائج بقدر ما يسألنا عن الموقف. هل كنّا من الذّاكرين أم من الغافلين؟ من الشّاهدين أم من الصّامتين؟ من المخلصين أم من المساومين؟

وحين يُنادى على الأمم يوم القيامة، ستشهد فلسطين: ستشهد على من باعها، وعلى من خذلها، وعلى من صبر وصمد لأجلها. فاختر أيَّ شهادة تريد أن تُكتَب لك عند الله، ولا تنتظر يوماً تُسأل فيه فلا تجد جوباً.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
11:53 am, Aug 19, 2025
temperature icon 21°C
broken clouds
70 %
1016 mb
8 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 75%
Visibility 10 km
Sunrise 5:52 am
Sunset 8:15 pm