العرب في بريطانيا | ضياء الفلكي.. حين يصبح الحلم العربي ناديًا

1447 محرم 8 | 04 يوليو 2025

ضياء الفلكي.. حين يصبح الحلم العربي ناديًا

مقالArtboard 2 copy (8)
عدنان حميدان July 3, 2025

لم يكن سهلاً أن تكون عربيًا في بريطانيا مطلع الثمانينات، حيث الاغتراب يتجاوز اللغة والجغرافيا، ويتسلّل إلى تفاصيل الروح: ثقافة غائبة، مجتمع يتشكل من الشتات، وحسّ انتماء يبحث عن مرساة. في مثل هذا المناخ، لم يكن إنشاء كيان عربي مشترك مجرد فكرة، بل مغامرة.

ومن بين الأسماء التي خاضت هذه المغامرة بحبّ وصدق وعناد نافع، يبرز اسم الأستاذ ضياء الفلكي، أحد المؤسسين الأوائل لـ “النادي العربي في بريطانيا”، والرجل الذي آمن بأن الوجود العربي لا ينبغي أن يظل متفرّقًا في المقاهي والبيوت، بل يجب أن يجد عنوانًا له، مساحة حاضنة، ومنبرًا يُعبّر من خلاله عن ذاته، أمام نفسه أولًا، ثم أمام الآخر البريطاني.

من فكرة رسمية إلى مبادرة شعبية

قد يبدو مستغرَبًا أن تكون أول نواة للنادي العربي قد خرجت من رحم مؤسسة رسمية، هي جامعة الدول العربية، التي طرحت – عبر مكتبها في لندن آنذاك – فكرة تأسيس مركز ثقافي واجتماعي غير سياسي وغير ربحي، يُخاطب الجالية العربية في بريطانيا ويخدمها، بعد أن لاحظت فراغًا مؤسسيًا كبيرًا في حياة العرب المقيمين.

لكن المدهش حقًا هو الطريقة التي تحوّلت بها هذه المبادرة من فكرة عابرة إلى واقع حي، على يد نخبة من الناشطين العرب في بريطانيا، ممن حملوا الفكرة بجدّية واحتراف، وكان في مقدمتهم ضياء الفلكي، الذي شارك في الاجتماعات التأسيسية إلى جانب الدكتور محمد مهدي، والسيدة ليلى منطورة، والسيد أندريه بلاطة، والسيد نبيه مدانات.

زمن التأسيس.. ومكر البدايات

بدأ المشوار الحقيقي في صيف 1980، عندما عُقد المؤتمر التأسيسي الأول، ثم تلاه في الخريف حفل الافتتاح الرسمي في فندق “الهيلتون بارك لين” بلندن، بحضور 400 شخصية عربية وبريطانية، كان من بينهم وزير الخارجية البريطاني آنذاك، اللورد كاردون، الذي ألقى كلمة تؤكد دعم أوروبا لحقوق الفلسطينيين، مستشهدًا بإعلان البندقية. لحظة كهذه كانت تعني أن الصوت العربي بدأ يُسمع.. وأن فكرة “النادي” لم تعد ورقًا، بل واقعًا يتفاعل مع السياسات والمجتمع.

ضياء الفلكي.. الرجل الذي خدم الفكرة لا نفسه

ما ميّز الأستاذ ضياء الفلكي، أنه لم يتعامل مع النادي كمجرد تجربة مؤسسية، بل كجزء من مشروع شخصي وأخلاقي في الحياة: أن يخدم الجالية العربية بصدق، بعيدًا عن الأضواء والمصالح. لم يكن من هواة الظهور، ولم يرتبط اسمه بصراعات أو حساسيات، بل حرص أن يكون النادي بيتًا للجميع، بعيدًا عن الولاءات السياسية والانقسامات الوطنية.

وبينما شغل البعض أنفسهم بالسجالات أو الولاءات، ظل هو منصرفًا إلى بناء ما يمكن بناؤه: مدرسة لتعليم الأطفال، حفلة تعارف، محاضرة ثقافية، لقاء عائلي، أو حتى جلسة حوار مع مرشح برلماني. لقد كان مشغولًا دومًا بتثبيت أقدام العرب في المجتمع البريطاني، لا بإقناعهم بالانفصال عنه.

النادي العربي.. ذاكرة لا تموت

في تلك السنوات، تحوّل النادي العربي إلى مظلة جامعة، تجمع المهندس الفلسطيني، والطبيب العراقي، والموظف السوداني، وربّة البيت المغربية، والطالب اليمني، وغيرهم من أبناء المشرق والمغرب الذين وجدوا فيه ركنًا دافئًا يحميهم من قسوة الاغتراب، ومن شتات الجاليات الصغيرة.

أنشأ النادي ثلاث مدارس عربية في لندن (إيلنغ، ويسمنستر، ويمبلدون)، تُدرّس اللغة والدين للأطفال أيام السبت، بإشراف نخبة من التربويين العرب. كما أسّس لجانًا للشباب والبراعم، كانت بوابة لبناء الصداقات، وتحصين الهوية، بل حتى لبناء أسر، حيث تزوّج بعض أعضاء النادي ممن تعرّفوا عبر نشاطاته!

أما حفلات العيد ورأس السنة، فقد كانت مهرجانًا حقيقيًا للفرح العربي في الغربة، تُحضّر فيها الأطعمة المنزلية، وتُزيّن القاعات بسجاد من منازل الأعضاء، وتُعزف الموسيقى الشرقية الحية، كأنك في قلب دمشق أو بغداد أو الخرطوم.

ليس مجرد مناسبات.. بل مواقف

لم يكن ضياء الفلكي والنادي العربي يعيشون في جزيرة معزولة عن القضايا العامة. بل انخرط النادي في دعم القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وفتح المجال للقاءات جماهيرية مع المرشحين للانتخابات، وشجّع أبناء الجالية على التسجيل والتصويت، بل وأسّس أو دعم منظمات محلية في مناطق عدة، مثل “جمعية برنت العربية” و”لجنة إيلنغ العربية”.

وفي مؤتمرات الجالية العربية التي عُقدت لاحقًا بدعم من الجامعة العربية، ظل ضياء يرفع صوته بأولوية بناء “البيت العربي”، مركز دائم للجالية العربية في لندن، يحتضن الثقافة والرياضة والعمل الخيري، ويكون عنوانًا رسميًا لمن لا عنوان له في بلاد الاغتراب. حلمٌ لم يتحقق بعد، لكنه بقي جزءًا من الإرث الذي لا يموت.

إرثٌ يُستعاد لا يُرثى

اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود على تأسيس النادي العربي، وبينما تتعدد الكيانات وتتشظى المبادرات، نعود لنستذكر تلك التجربة النقية، بكل ما فيها من عفوية وإخلاص، لنتعلّم منها معنى الريادة والعمل الجماعي غير المؤدلج.

ضياء الفلكي لم يكن مجرد ناشط، بل كان صاحب رؤية، وحارسًا أمينًا على البذور الأولى للوجود العربي المنظم في بريطانيا. رجلٌ آمن بأن الانتماء لا يكفي وحده، بل يحتاج إلى أدوات: إلى نادٍ ومدرسة ومنبر ومنصة. رجلٌ خدم الفكرة أكثر مما خدم نفسه، وظل وفيًّا للحلم حتى وهو يراه يذبل تحت وطأة الإهمال أو التشرذم.

في زمنٍ كثرت فيه الأصوات، وقلّت فيه الأفعال.. لا نملك إلا أن نُمسك بتاريخ أمثال ضياء الفلكي، لنتذكّر أننا كنّا هنا ذات يوم، بروحٍ واحدة، وبحلمٍ واحد، وبنادٍ عربيٍ كبير.

 


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

loader-image
london
London, GB
5:52 am, Jul 4, 2025
temperature icon 13°C
broken clouds
76 %
1028 mb
2 mph
Wind Gust 3 mph
Clouds 68%
Visibility 10 km
Sunrise 4:49 am
Sunset 9:19 pm