العرب في بريطانيا | رد بريطانيا على احتجاجات فلسطين.. قمع أمني أم ت...

1447 ربيع الثاني 12 | 05 أكتوبر 2025

رد بريطانيا على احتجاجات فلسطين.. قمع أمني أم تكريس للوهم الديمقراطي؟

WhatsApp Image 2025-10-04 at 12.17.12
اسماعيل باتيل October 4, 2025

يشير رد بريطانيا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى وهم مفاده أن الخطاب السياسي والتشريعات والشرطة ليست سوى مجموعة محايدة من الإجراءات. بل هي شبكة من المعرفة والمؤسسات والممارسات التي تُنتج أنواعًا معينة من الأفراد، حيث يتم بناء صورة المحتجين كـ«خطرين» بالمقارنة مع بقية «المواطنين المحترمين». وما يُعرض على أنه «النظام العام» من الأفضل فهمه كنوع من النظام الذي يفرض الانضباط على الأجساد، ويقيد الكلام، ويؤمن السلطة المعرفية والأخلاقية للحكومة.

يُقال إن أحد السمات المميزة للديمقراطية الليبرالية هو حرية التجمع والتعبير. لكن الحرية ليست ببساطة موجودة أو غائبة؛ بل تُنتج من خلال حدود خطابية تحدد من يمكنه الكلام، وكيف يمكنه الكلام، وأي أشكال من المعاناة تُعتبر قابلة للعرض السياسي. القواعد المتعلقة بمكان الاحتجاج، وما الصور التي يمكن عرضها، والشعارات المسموح بها، تعمل جميعها كأدوات للحوكمة. هذه القضايا تحدد حدود الموضوعية المقبولة وتفرض سياسة عدم الاعتراف لأولئك الذين يقعون خارج الإطار المسموح به.

تظهر تجربتي في تنظيم الاحتجاجا لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، بما في ذلك مشاركتي في أكثر من ثلاثين احتجاجًا وطنيًا في لندن ضد الإبادة الجماعية في غزة، كيف تعمل هذه الرقابة على المعارضة ليس فقط من خلال الأوامر، بل من خلال القيود الإنتاجية. تدخلات الدولة تُغرِس عادات التنظيم الذاتي، حيث يستوعب النشطاء القواعد المتعلقة بما يبدو «احتجاجًا قانونيًا»، ويقلّصون من أساليب خطابهم وتصرفاتهم لتجنب العقوبات. هذه هي ممارسة “الحكومة” في العمل، قوة تحكم لا بالقوة فقط، بل من خلال تشكيل السلوك والرغبات.

منذ أكتوبر 2023، صُوّر التضامن المؤيد للفلسطينيين خطابيًا كتهديد داخلي، كـ«آخر مؤمّن عليه». الكلمات لها وزن. عندما يصف القادة السياسيون، مثل وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافيرمان، مسيراتنا السلمية بـ«مسيرات الكراهية»، وعندما حذر رئيس الوزراء آنذاك ريشي سوناك بأن «حكم العصابات يحل محل الحكم الديمقراطي»، فإنهم يؤدون فعل خطاب يعيد توصيف مجموعة متنوعة من الأشخاص من مختلف الأعمار والأديان والأعراق كتهديد غير متمايز. هذا التوصيف الآخر الخطابي هو الشرط المسبق للإجراءات القانونية. خطاب الطبقة السياسية يبني صورة المحتج كشخص بحاجة إلى الاحتواء. وهذا ما استمر زعيم حزب العمال، الآن رئيس الوزراء ستارمر، في تطبيقه وتوسيع صلاحيات الشرطة.

بدأت التشريعات والإجراءات الإدارية في عهد الحكومة المحافظة بتصنيف الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين على أنها مرضية. في فبراير 2024، أعلن وزارة الداخلية عن منح الشرطة صلاحية اعتقال أي شخص يرتدي أغطية للوجه في الاحتجاج. وهي تدابير تجرم النساء المسلمات، والمصابين بالمرض، ومن يريد الحماية من أعين المدافعين عن إسرائيل. بعد ذلك، قامت الشرطة بتحديد مسارات المظاهرات وأوقات بدايتها ونهايتها، وحتى حظرت المسيرات «في محيط أماكن العبادة». على سبيل المثال، في يناير 2025، منعت الشرطة المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين من التجمع خارج مقر هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بحجة قربها من كنيس يهودي. وبالمثل، تم فرض حظر على المنظمين لتجنب السفارة الإسرائيلية. في يونيو 2025، حذّر عضو البرلمان من أن مصطلحات مثل «المحيط» و«الصرامة المعقولة» تُترك عمداً غامضة، بما يشكل بيئة جديدة «عدائية» للتجمع الحر.

الأوامر هذه لا تنظم السلوك فحسب، بل تُنشئ أيضًا هرمية معرفية. أجساد المحتجين المؤيدين للفلسطينيين تصبح فائقة الوضوح باعتبارها «تهديدات»، بينما تصبح معاناة الفلسطينيين غير مفهومة ضمن القواعد الأخلاقية الرسمية. في الواقع، يُعاد تشكيل المحتج كموضوع مشبوه، حيث إن وجوده بحد ذاته يبرر المراقبة والسيطرة الاستباقية.

يمتد الجهاز التأديبي إلى ممارسة الاحتجاج اليومية. خلال تجمع 6 سبتمبر 2025، قيدت الشرطة طرق دق الطبول (رمز مجاعة غزة) والهتافات واستخدام مكبرات الصوت حتى الوقت الرسمي المسموح به. كل هذه تصبح مواقع يُنقش فيها سلطة الدولة حدودها. في الوقت نفسه، تم نشر سلطة جديدة للتفتيش والتوقيف ضد المتظاهرين تقريبًا حصريًا لمؤيدي غزة. استخدمت الشرطة هذه الصلاحية 47 مرة، 40 منها على متظاهرين في احتجاج مؤيد للفلسطينيين، دون أي اعتقالات. هذا يظهر أن سياسة التفتيش ليست دليلًا على الخطر بقدر ما هي طقس للانضباط، وعرض لأداء سلطة الدولة التي تحاول تهيئة سلوك المحتجين.

تزيد المراقبة من هذا التأثير التأديبي. يقوم شرطة الشغب بتصوير المتظاهرين بالفيديو بشكل روتيني، وهدد ضابط شرطة من كنت بسيدة بموجب قانون مكافحة الإرهاب بسبب حملها ليافطة مكتوب عليها «حرروا غزة». عندما تُعامل عبارات مثل «حرروا غزة» أو يافطة تحتوي على جوز الهند كخطاب مشبوه، فإن ذلك يشير إلى أن حتى علامات التضامن قد تُقرأ في إطار مكافحة الإرهاب. هذا يخلق مجموعة مراقبة حيث تكون الإيماءات والملابس والكلمات عرضة باستمرار لإعادة التصنيف. هذا يحوّل الخطاب الإنساني إلى مسؤولية جنائية، ويحوّل التضامن السياسي إلى دليل على الانتماء إلى جهات غير مرغوب فيها. هذه عنف معرفي، وهو إنكار للغة سياسية ذات معنى لمجموعة تعيش وتحتج على الفظائع.

رد بريطانيا على احتجاجات فلسطين.. قمع أمني أم تكريس للوهم الديمقراطي؟

هنا، السلطة والمعرفة تتعايش وتنتج بعضها البعض. الخطاب السياسي والهيكل القانوني الناتج لا يقتصران على الإكراه؛ بل يُنتجان حقائق حول من هو مشروع ومن هو مشبوه. هذه الحقائق تُستوعب داخليًا. يبدأ المحتجون في مراقبة أنفسهم، واعتماد إجراءات تصحيحية تُروض المعارضة وتحافظ على مظهر مجتمع ليبرالي يعمل. في هذا السياق، يخاطر الاحتجاج بأن يتحول إلى صمام أمان أكثر منه موقعًا للتحول الثوري، وسيلة تدير الدولة بها تناقضاتها بدلًا من حلها.

ومع ذلك، تُظهر تجربتي أن هذا التأديب ليس كاملًا أبدًا. فقد واجه الجمهور البريطاني خلال العامين الماضيين هذا التأديب وقدم سردًا مضادًا. تُظهر استطلاعات الرأي هذا بوضوح. بحلول يوليو 2025، تعاطف حوالي 62% من البريطانيين مع الفلسطينيين، وهو أعلى مستوى منذ بدء الصراع وآليات التأديب. في الوقت نفسه، يستمر مئات الآلاف في حضور المسيرات الشهرية في لندن بالإضافة إلى الاحتجاجات المحلية في أنحاء البلاد. في 6 سبتمبر 2025، تجمع حشد متحمس في ميدان البرلمان للاحتجاج على حظر مجموعة «فلسطين أكشن»؛ ردت الشرطة باعتقالات جماعية، واحتجزت ما يقرب من 900 شخص. إن توسع التضامن مع الفلسطينيين واستمرار المسيرات الشهرية يُظهر كيف يُحفّز الجمهور ويتحدى سرد الحكومة. إن الانتفاضة الجماعية، بما في ذلك العصيان المدني، تكشف عن حدود الروايات الأمنية وتظهر أن الآليات التأديبية يمكن مقاومتها وتعطيلها وفقدان شرعيتها.

هذه المقاومة ليست مجرد شكلية أو إجرائية؛ بل هي معرفية ووجودية. فهي تُظهر رفض الجمهور البريطاني لمحو الحياة الفلسطينية، وتتحدى أشكال المعرفة التي تُبرر العنف الحكومي. إنها تؤدي قواعد شرعية مختلفة، قائمة على الإنسانية المشتركة، والوعي التاريخي، ورفض النسيان المقرّ من الدولة حول الحلفاء (التحالف الغربي المركز) وعواقبه المعاصرة.

إذا ضاعفت الدولة جهودها، بتوسيع المراقبة، وتطبيع التفتيش والتوقيف، واستدعاء أطر مكافحة الإرهاب، فإن ذلك سيُوضح فقط ما كان ضمنيًا منذ فترة طويلة. فالنظام الليبرالي يحوي داخله خيالًا غربيًا ما بعد استعماري ينظم المواطنين وفق منطق أيديولوجي. الخيار الذي تواجهه الحكومة ليس إداريًا فحسب؛ بل هو ما إذا كانت ستعمّق جهازًا يراقب الحزن والتضامن، أم ستستجيب للمطالبة الأخلاقية التي تُرفع في شوارع فلسطين الحرة.

المصدر: criticalmuslimstudies


إقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
1:17 am, Oct 5, 2025
temperature icon 12°C
broken clouds
76 %
1009 mb
18 mph
Wind Gust 29 mph
Clouds 79%
Visibility 10 km
Sunrise 7:07 am
Sunset 6:29 pm

آخر فيديوهات القناة