حُسن الخُلُق.. سُموّ الروح ومفتاح الإنسانيّة

في عالمٍ تزدحم فيه الأصوات، وتضطرب القلوب بين صخب المادّة وضجيج المصالح، يبقى الخُلُق الحسن نورًا يتدفّق من أعماق الإنسان، ليُذكّره بأنّه لم يُخلق من طينٍ فحسب، بل نُفخ فيه من روحٍ إلهيّة سامية. وليس حُسن الخُلُق في جوهره سوى صدى تلك النَّفخة، يُذكّرنا بأصلنا الطّاهر، ويُعيدنا إلى حقيقتنا التي كثيرًا ما نُهملها ونحن نركض خلف زينة الدنيا.
الخُلُق الحسن فلسفةُ حياة، وانعكاسٌ لميزانٍ داخليّ يُقيم العدل بين شهوة الجسد وسموّ الروح. هو حالةُ توازنٍ تُهذّب القوّة فلا تتحوّل إلى بطش، وتروّض الغضب حتى يصير حِلْمًا، وتحوّل الألم طاقةً للعطاء بدلًا من أن يكون نارًا للاحتراق.
من يملك حُسن الخُلُق يملك مفاتيح القلوب قبل أن يملك أبواب البيوت، لأنّ القلوب بطبعها لا تُفتح بالقوّة بل باللطف، ولا تُروَّض بالقهر بل بالرّحمة. ولذا كان النبي ﷺ، وهو سيّد الخلق، يقول: “إنّما بُعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق”، فكأنّ الرسالة نفسها غايتها تهذيب النفس وتحريرها من سجون الأثرة والأنانية.
في الفلسفة القديمة، كان يُقال إنّ الإنسان يُقاس بما يُخلّفه من أثرٍ في أرواح الآخرين. وحُسن الخلق هو الأثر الأعظم، لأنّه يسكن في الذاكرة بعد رحيل الجسد، ويجعل المرء خالدًا في وجدان من عرفوه، ولو كان جسده تحت التراب. فالناس قد ينسون كلماتك، لكنهم لا ينسون أبدًا كيف جعلتهم يشعرون.
وحُسن الخلق حقيقةٌ تتجلّى في أوقات الخفاء، حين لا رقيب سوى الضمير. يظهر في كلمةٍ تكبت بها غيظك وأنت قادر على البطش، في عفوٍ تمنحه لمن أساء إليك، في بسمةٍ تُطفئ نار الحقد في قلبٍ موجوع، وفي صبرٍ على ابتلاءٍ يُهذّب روحك قبل أن يُرهق جسدك.
إنّ الأخلاق الطيبة تجعل من المرء جسرًا يعبر عليه الناس إلى الطمأنينة. تُحوّل حياته إلى شجرةٍ مثمرة، يأوي إليها المتعبون ليستظلّوا بظلّها، ويقتاتوا من ثمرها، حتى لو رُميت بالحجارة.
وحين نُدرك أنّ الأرض لا تُحمل بالقوّة بل بالعدل، وأنّ القلوب لا تُملك بالرّهبة بل بالمودّة، نعي أنّ حُسن الخلق هو شرط الارتقاء الإنسانيّ. فبه تُشيَّد الحضارات، وتُبنى الأمم، وتُكتب أعظم الصفحات في تاريخ البشر.
إنّ المرء بحُسن خُلُقه يبلغ منازل لا تدركها أقدامه، ولا شهاداته، ولا أمواله، لأنّ الله يرفع الأخلاق كما يرفع أصحابها من العابدين، ويُثقل بها الميزان يوم لا ينفع جاهٌ ولا سلطان. لذلك قال الحكماء: “قد يُحبّك الناس لصوتك أو لجمالك أو لعلمك، لكنهم لا يُحبّونك حقًّا إلّا لأخلاقك.”
فلنجعل من الأخلاق الحسنة رسالةً نُحيي بها حياتنا ونختم بها أعمارنا، ولتكن زادنا في الرحلة الطويلة. نزرع بها الجمال في القلوب، ونُحيل بها القسوة إلى حنان، والعداوة إلى صفحٍ وسلام. فإن رحل الجسد يومًا، يبقى الخلق الطيب شاهدًا حيًّا علينا، يروي للعالم أنّنا كنّا بشراً بحقّ، وأنّنا مررنا بالحياة كما تمرّ الوردة في البستان؛ تُبهج العيون، وتُنعش القلوب، وتترك عطرها بعد ذبولها.
اقرأ أيضًا:
- حكومة العمّال فشلت في تلبية طموحات الشعب.. وسيقود حزبنا التحوّل المنشود
- نصر قانوني لمنظمة “بال أكشن”: المحكمة العليا توافق على مراجعة حظرها
- لا تألف وجع أخيك.. وكن له عونًا وإن طال الأمد
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
اترك تعليقا
التعليقات
آخر فيديوهات القناة
Error 403: The request cannot be completed because you have exceeded your quota..
Domain code: youtube.quota
Reason code: quotaExceeded
Error: No videos found.
Make sure this is a valid channel ID and that the channel has videos available on youtube.com.
مقال أكثر من رائع شدني بكل حروفه وجمله الجميله… شكراً مثيراً