حين تتكلم غزة… وتصمت كل الخطابات
خرجتُ من تلك الأمسية حاملةً مزيجًا من المشاعر لم أستطع ترتيبها بعد. في صدري خليط من وجعٍ صامت، وإعجاب، ودهشةٍ مؤلمة من قدرة الإنسان على الصمود وسط الركام دون أن ينكسر. قوة تجعلنا نخجل من أنفسنا أحيانًا، حين نقارن ثباتهن بترددنا، وصبرهن بضيقنا.
لم تكن أمسيةً عابرة، بل سيبقى أثرها محفورًا في الذاكرة. نعم، لم تكن ندوةً عادية، ولم تكن كلمات تُلقى على استحياء، بل كانت مساحةً لكشف الحقيقة من قلب المعاناة.
في قاعة جامعة SOAS في لندن، ارتفعت أصوات شابات فلسطينيات من غزة في أمسية وندوة نظّمها المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين، بالتعاون مع منصة العرب في بريطانيا. كانت أمسيةً للاستماع لا للخطابة، وللشهادة الحيّة لا للروايات الجاهزة.
كانت أصوات فتيات جامعيات من غزة يحملن العلم والوعي، لكنهن حملن قبل ذلك وجع المكان وثقل التجربة. لم يتحدثن من خلف نصوص مكتوبة، بل من قلب التجربة، من ذاكرة لا تزال تنزف، ومن واقعٍ يُعاش كل يوم تحت الحصار. كانت غزة حاضرة في وجوههن، وفي كلماتهن، وفي مشاعرهن؛ بصوت فتيات من تلك الأرض يسردن بصدقٍ وألم حياةً يصبح فيها الصبر ضرورة، والخوف رفيقًا، والفقد عادة.
مشاعر مختلطة من الحزن والفخر، من العجز والأمل؛ مشاعر لا تشبه بعضها أبدًا، لكنها اجتمعت في اللحظة ذاتها، وجعلت الحضور متأثرين. شعورٌ غريب: كيف يمكن للاختلاف أن يتعايش داخل القلب دون تناقض؟ في أصواتهن المرتجفة شجاعة لا تُقاس بأعمارهن، وإصرار واضح على عدم الاستسلام، وإصرار على إيصال رسالة واحدة للعالم:
نحن هنا، وما زلنا أحياء. نحن هنا، وسنبقى.
وسام شرف على صدور الشرفاء، وبصمة عار على كل متخاذل.
فتيات في قمة الرقة، حملن الحقيقة بجرأة، وتحدثن عن الإبادة وكأنهن يرفضن أن تُختصر قصصهن في كلماتٍ عابرة. كنّ شاهدات على زمنٍ يحاول طمس الذاكرة، فاخترن أن يكنّ الذاكرة نفسها. لم يكن حديثهن عن الألم فقط، بل عن الانتماء، وعن الكرامة، وعن معنى أن يتمسك الإنسان بإنسانيته حين يُسلب منه كل شيء.
خرجتُ وأنا أفكر: أيُّ قوة هذه التي تجعل الإنسان، رغم كل ما سُرق منه، يحتفظ بعزته؟ أدركتُ أن الغنى الحقيقي ليس شعارًا، بل واقعًا يُعاش؛ غنى بالانتماء، وبالكرامة، وبالقدرة على تحويل الألم إلى رسالة تُسطَّر في قلوب وعقول الجميع. وهذا ما تعلمناه من أهل غزة العزة، وما رسّخته تلك الفتيات في عقولنا وقلوبنا.
تلك الأمسية تركت فينا مسؤولية: مسؤولية أن لا يكون الاستماع نهاية الطريق، بل بدايته؛ أن تتحول الشهادة إلى وعي، والوعي إلى موقف، والموقف إلى فعل. لأن من سمع شهادةً حيّة ولم تتغير نظرته للعالم بعدها، عليه أن يراجع إنسانيته وضميره.
اقرأ أيضًا:
- كيف تراقب شرطة لندن احتجاجات غزة وتفشل في مواجهة العنصرية داخلها
- حرب المصطلحات وتبييض الجريمة: كيف يُعاد تشكيل الرواية لتجريم الضحية وتبرئة الاحتلال؟
- من ممارسات المنافقين في الأوقات الحرجة
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
