بين ضغوط الغربة وراحة البال: كيف تغيّر الحديث عن الصحة النفسية في مجتمعنا؟

لم يكن الحديث عن الاكتئاب أو القلق يومًا أمرًا مألوفًا في البيوت العربية، ولا سيما بين من عاشوا الغربة واختبروا صعوباتها الأولى في بريطانيا. كان الخوف من نظرة المجتمع، أو الحرج من الاعتراف بالضعف، يدفع الكثيرين إلى الصمت الطويل. لكن شيئًا ما تغيّر في السنوات الأخيرة.
أصبحنا نرى نقاشات أكثر انفتاحًا، ووجوهًا تتحدث بشجاعة عن تجاربها، ووعيًا جديدًا يتشكل داخل الجالية العربية بشأن فكرة أن الاعتناء بالنفس ليس رفاهية بل ضرورة للحياة المتوازنة.
واقع نفسي متغيّر… لكنه ما زال غامضًا
تُظهر بيانات مكتب الإحصاء الوطني البريطاني (ONS) أن العرب يشكلون نحو نصف في المئة من سكان بريطانيا، لكن الصورة الدقيقة لصحتهم النفسية ما تزال ضبابية. فالتقارير الرسمية تدرجهم في الغالب ضمن فئات “الأقليات الأخرى”، ما يجعل من الصعب معرفة الحجم الحقيقي للمشكلة.
رغم ذلك، تشير مراجعات (NHS England) إلى أن العرب يستخدمون خدمات الطب النفسي بنسبة أقل من غيرهم، ليس لأنهم أقل معاناة، بل لأنهم يواجهون جدارًا من العقبات: صعوبات لغوية، ونقص في المعالجين الناطقين بالعربية، وخوف دائم من الوصمة الاجتماعية.
أما اللاجئون العرب، فهم أكثر الفئات هشاشة. كثيرون منهم مرّوا بتجارب عنف أو نزوح، وبعضهم يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) أو اكتئاب طويل الأمد يحتاج إلى دعم نفسي مستمر، لا إلى جلسة عابرة.
تحوّل تدريجي في نظرة العرب للعلاج النفسي
اليوم يمكن أن نلاحظ أن جيل الشباب العربي في بريطانيا أكثر جرأة في طلب المساعدة النفسية. لم يعد العلاج النفسي عيبًا كما كان في الماضي، بل صار جزءًا من روتين العناية بالنفس، تمامًا مثل الذهاب إلى الطبيب العام أو ممارسة الرياضة.
ساهمت البيئة البريطانية المنفتحة في هذا التغيير، إلى جانب التأثير الكبير للإعلام الذي جعل الحديث عن “الصحة العقلية” جزءًا من ثقافة الحياة اليومية. أصبح الحديث عن القلق أو الاحتراق النفسي طبيعيًّا، بل دليلًا على الوعي والنضج.
النساء العربيات… وجع مضاعف تحت السطح
تتفق تقارير عدة، منها دراسات منظمة الصحة العالمية والمؤسسة البريطانية للصحة النفسية، على أن النساء أكثر عرضة للاكتئاب والقلق بمعدل يقارب الضعف مقارنة بالرجال.
فالمعادلة أعقد بالنسبة للمرأة العربية في المهجر. فهي تحاول التوفيق بين ثقافة جديدة وقيم تقليدية راسخة، وبين الطموح الشخصي ومتطلبات الأسرة والعمل.
التقلبات الهرمونية، والحمل والولادة، وكذلك العزلة الاجتماعية، تجعلها أكثر عرضة للاضطرابات المزاجية. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن واحدة من كل خمس نساء قد تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة، وهي حالة تحتاج إلى احتواء ودعم لا إلى لوم أو تجاهل.
في المقابل، يواجه الرجال العرب صراعًا صامتًا من نوع آخر. فالتقاليد التي تربط الرجولة بالكتمان تمنع الكثيرين من طلب المساعدة، رغم أن معدلات الانتحار بين الرجال تبقى أعلى. إنها معادلة مؤلمة: النساء يتألمن بصوتٍ مسموع، والرجال يعانون في صمت طويل.
لماذا لا نلجأ للعلاج النفسي بما يكفي؟
حتى مع تحسن الوعي، ما زالت هناك حواجز تمنع الكثير من العرب من طرق باب الطبيب النفسي.
- اللغة: لا يستطيع كثير من أبناء الجيل الأول التعبير عن مشاعرهم بإنجليزية دقيقة.
- الوصمة الاجتماعية: “ماذا سيقول الناس؟” ما زال سؤالًا يخيف البعض.
- غياب الحسّ الثقافي: المعالج الذي لا يفهم خلفيتك الدينية أو الاجتماعية قد يصعب عليه الوصول إلى جوهر المشكلة.
- التكلفة: جلسات العلاج الخاصة مكلفة، ما يجعل بعض الناس يختار الصمت بدل المواجهة.
وسائل التواصل… نافذة للوعي وأحيانًا للفوضى
ساهمت منصات التواصل في كسر حاجز الصمت، فبات كثير من المختصين العرب يقدّمون محتوى توعويًّا عن القلق والاكتئاب والاحتراق النفسي.
لكن هذا الفضاء الواسع لا يخلو من الخطر: نصائح عامة أو تجارب شخصية تُنشر بلا تدقيق، وتشجع بعض الناس على “تشخيص أنفسهم” بطريقة قد تضر أكثر مما تنفع.
لذلك يبقى اللجوء إلى مختصّين معتمدين هو الطريق الآمن دائمًا.
القطاع الصحي NHS: بداية الطريق نحو التعافي
ميزة الحياة في بريطانيا أن نظام (NHS) يتيح خدمات علاج نفسي مجانية تشمل جلسات العلاج السلوكي المعرفي (CBT) والدعم الأولي للحالات الخفيفة والمتوسطة.
يمكن لأي مقيم -سواء كان عربيًّا أم غير عربي- أن يطلب إحالة من طبيب العائلة (GP)، مع توفير مترجم عربي عند الحاجة.
ومع أن هذه الخدمات ليست مثالية، فإنها خطوة أولى نحو الشفاء لمن يواجه الأرق أو القلق أو الإرهاق النفسي الناتج عن ضغوط الحياة اليومية.
نحو ثقافة جديدة في التعامل مع النفس
“العلاج النفسي ليس ضعفًا بل وعي” عبارة تختصر التحول الذي بدأ يتجذر داخل الجاليات العربية في بريطانيا.
نحن بحاجة إلى أن يمتد هذا الوعي إلى المدارس والمساجد والمنابر الإعلامية، حتى يصبح الحديث عن الألم النفسي أمرًا طبيعيًّا، لا مدعاة للحرج.
حين ندرك أن سلامة العقل لا تقل أهمية عن سلامة الجسد، سنكون أقرب إلى بناء مجتمع عربي متوازن، أكثر صحة وقدرة على التكيّف مع الحياة في المهجر.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇