عظمة الموت.. رثاء صديق
قال الموت فناء… قلتُ الموت حياة جديدة. قال الموت نهاية حياة…قلتُ الموت بداية خلود. قال الموت فراق…قلتُ الموت لقاء الأرواح المتحابة في جلال الله. قال ألا تَمَل؟ قلت ما دمتُ أحيا!
هنالك أناس فقدُهم يعادل فقْد عالم بأسره. تحتار كيف تصفهم، ومن أي زاوية تنظر الى إنجازاتهم في ترميم الروح لحظة انكسار عابرة بعُمْر الدهر. هناك آلاف الأشخاص يمرون في حياتنا دور أن نشعر، أو نعير وجودهم أدنى اهتمام، فهم ليس أكثر من سحابة صيف عابرة، بل وتتلاشى الى غير رجعة.
وهناك شخص تشعر أنك مكتفٍ به عن سواه. شخص يمثل لك محور حياة، لن تجد الطمأنينة إلا بوجوده..ولن تحاول مجرد الابتسام إلا بحضوره، أو حين يخطر ببالك. هنالك شخص تشعر أنه بعضٌ منك.. وأنك جزءٌ لا يتجزأ منه.. وأن كليكما لا يمكن أن ينفصل عن الآخر، كبياض العين وسوادها… أيهما يُضفي على العين رونقًا وبهاء أكثر من الآخر…أنت لا تدري حتمًا..لذا فهما واحد..ولا يمكن أن يكونا غير ذلك.
صديق الدراسة
يوسف عنبر…رفيق المدرسة الابتدائية، أيام كنا نحلق رؤوسنا على الصفر، ونحمل كتبنا ودفاترنا في شنطة مهترئة من القماش، ونتحايل على كوب الحليب سيء المذاق بدلقه على الأرض خفية عن أعين المعلمين.
يوسف عنبر…رفيق المدرسة الثانوية، أيام كانت أجرة الطالب من الجلزون الى رام الله وبالعكس، قرشًا ونصف القرش في باص الهنشل؛ يعرفه من عاصر تلك الحقبة.
يوسف عنبر…رفيق الدراسة في جامعة بيرزيت، حيث كنا نقطع المسافة بين بيوتنا والحرم الجامعي القديم في بلدة بيرزيت مشيًا على الأقدام، في لهيب الصيف، وزمهرير الشتاء.
تلك الأيام كان مصروف الواحد منا لا يتجاوز عشرين قرشاً في أحسن الأحوال…هذا إن وجدها! يوسف عنبر…رفيق الغُربة في الرياض بالمملكة العربية السعودية؛ ويا لها من أيام وذكريات. لم نكن ننفصل عن بعضنا وعن لقاءاتنا اليومية الا نادرًا. كنا فعلًا نشكل عائلة واحدة، ولا سيما أننا كنا حريصين على أن نسكن في نفس الحي بحيث يسهل اللقاء متى نشاء.
عشرة عمر
يوسف عنبر…وبعد انتقالي من الرياض الى لندن منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لم يحدث قط ولا لمرة واحدة، أن عدتُ الى الجلزون زائرًا إلا ويكون – أبو حسين – من أوائل من ألتقي بهم، إن لم يكن أولهم على الإطلاق.
يوسف عنبر…عِشرة عمر…وصحبة كان الاخلاص والاحترام المتبادل عنوانها الرئيس. لم نشعر يومًا مطلقًا أن ما يجمعنا مصلحة عابرة، لذا استمرت صداقتنا، بل أُخوّتُنا بنفس عنفوانها أيام الجامعة، وصفائها أيام الثانوية، وبراءتها أيام الإبتدائية.
من اللحظات التي لا يمكن نسيانها عندما رآني أبو حسين عصر اليوم الذي أذيعت فيه نتائج التوجيهي، وقد كانت تُذاع عبر الاذاعة، وتنشرها الصحف المحلية، وقد كان ذلك قبل خمسين عامًا بالتمام ولا كمال؛ فبادر بالسؤال: قديش معدّلك؟ فقلت له: 81.4 فابتسم وقال: وأنا 84.
كان رحمه الله واثقا أننا سننجح معًا، بل سنتفوّق! فقد كان الأول على الجلزون في الفرع العلمي، وكنتُ الأول في الفرع الأدبي عام 1974. وكان ذلك حصادًا مشروعًا لليالٍ طوال، حيث كنا معًا نتسابق، أينا يسهر للدراسة أكثر من صاحبه، وقد كنت أرى ضوء اللوكس أبو شمبر المعلق على شجرة في بيت يوسف، وكان يستطيع رؤية ضوء اللوكس المعلق على التينة أمام بيتنا…
كم ترافقنا كلٌ بسيارته في رحلة العُمرة من الرياض الى مكة…كم ترافقنا في التغرير بنواطير اللوز والمشمش في حقول جِفنا، والسطو عليها للفوز ببضع حبات طازجة…يا لها من أيام، إبّان المرحلة الابتدائية، كم نتمنى عودتها المستحيلة.
الموت بداية خلود
رحمك الله يا صديقي يوسف، وعزائي لنفسي ولأبنائك وإخوتك وأخواتك وأبنائهم، وكل من عرفك رجلًا شهمًا كريمًا دمث الأخلاق، دائم الإبتسام، راسخ العقيدة والإيمان. لم يكن أبو حسين يتأخر لحظة واحدة عن مد يد العون لكل محتاج – مهما كانت حاجته – حتى قبل أن ينطق بها؛ وهذا لعَمري منتهى المروءة والشهامة والكرم.
رحمك الله يا أبا حسين كلما تعاقب الليل والنهار… وكلما هبت النسائم، وهدلت الحمائم… وكلما ذكر الله ذاكر، أو غفل عن ذكره غافل.
رحمك الله يا صديقي وجعل منزلتك الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولائك رفيقا. والله إن القلب ليحزن، وأن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا أبا حسين لمحزونون… ولكننا لا نقول إلا ما يُرضي ربنا…إنا لله وإنا اليه راجعون.
اللهم اغفر له وارحمه، وتجاوز عنه، وتقبله قبولًا حسنًا، وأكرم نُزُلَه، ووسّع مُدخلَه، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقّه من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇