العرب في بريطانيا | حين يصبح علم المتديّن أخطرَ من جهله

1447 جمادى الأولى 22 | 13 نوفمبر 2025

حين يصبح علم المتديّن أخطرَ من جهله

WhatsApp Image 2025-11-10 at 9.14.32 AM
أميرة عليان تبلو November 10, 2025

حين يعلو الإنسان، فليحذر أن يعلو الغرور في قلبه. فليس أصعب على النفس من أن تُختبر بالعلوّ بعد الانكسار، ولا أخطر على الروح من أن تتزيّن بثوب الدين فتظنّ أنها بلغت مقامًا يُعفيها من التواضع والمحاسبة.

كثيرون ظنّوا أن مكانتهم في الفقه أو الوعظ أو العلم الشرعي رفعتهم فوق الناس، فاستبدلوا نور العلم بظلمة الكِبر، وغفلوا عن أن الله ينظر إلى القلوب قبل الأقوال، ويَزِن النيات قبل المظاهر.

إنّ الغرور حين يتسلّل إلى قلب المتديّن أو العالم يصبح فتنةً أعظم من الجهل نفسه؛ لأنّ الجاهل قد يتعلّم، أما المتكبّر بعلمه فيُغلق على نفسه باب الهداية. فالعلم الذي لا يُثمر خشيةً علم ناقص، والدين الذي لا يولّد رحمةً دين أجوف، والفقه الذي لا يورث لينًا فقه يحتاج إلى فقهٍ آخر يُهذّبه.

في مجتمعاتنا المتنوّعة التي يعيش فيها المسلم إلى جانب ثقافات وأديان مختلفة، يتجلّى هذا المعنى أكثر من أي مكان آخر؛ فالعالم والداعية والمربّي يعيش بين قلوبٍ تبحث عن القدوة قبل الخطاب. فإن لم يترجم علمه إلى تواضعٍ في السلوك، فلن يجد طريقًا إلى القلوب مهما بلغت فصاحته أو مكانته.

في زمنٍ يراقب فيه الناس سلوك المسلم أكثر مما يسمعون أقواله، يصبح التواضع بحدّ ذاته رسالةً دعوية، إذ يرى غير المسلم في سلوك المتواضع صدق الإيمان لا صخب الشعارات. ولذلك كان الأنبياء -وهم صفوة الخلق- أشدّ الناس تواضعًا. لم يقل موسى عليه السلام: أنا خير منكم، بل قال: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل}. ولم يقل النبي ﷺ يوم فتح مكة: أنا المنتصر، بل دخلها خافض الرأس حتى كادت لحيته تمسّ سَرج ناقته تواضعًا لله.

فهل يحقّ لأحدٍ بعد ذلك أن يستعلي على الناس بعلمٍ أو بعبادةٍ أو بمنصبٍ ديني؟ من بلغ مكانةً في الفقه أو الدعوة ثم نظر إلى الناس من علٍ فقد خسر المعنى الأوّل للدين: الرحمة.

في واقعنا اليوم، نرى أحيانًا من يجعل من علمه سلاحًا للمِراء والجدال، مع أن الناس بحاجة إلى من يواسيهم، لا من يُدينهم. فالدين طريق نجاةٍ، والنّجاة لا تكون بالاستعلاء، بل بالصدق واللين والإخلاص.

كم من عالمٍ ملأ الدنيا ضجيجًا بخطبه ثم انطفأ أثره، وكم من إنسانٍ خامِل الذِّكْر لم يُعرَف اسمه لكن الله رفع ذكره؛ لأنه كان نقيّ القلب. الله لا يُبهره الزيّ ولا اللقب، بل يُبصر ما إذا كنتَ تفعل ما تقول، وتخشع حين تُمدَح، وتبكي حين تُذكَر.

وفي زمنٍ يتنافس فيه كثيرون على الظهور والعدد والتأثير، يذكّرنا التواضع بأن المجد الحقيقي ليس في عدد المتابعين، بل في صفاء النية ونقاء السريرة. فالمكانة تزول والمحبّة تتغيّر، لكنّ الأثر الباقي هو ما تركته في قلوب الناس من صدقٍ ورحمةٍ وعدل.

حين يدرك الإنسان أن الله يطّلع على ما في قلبه، يتهذّب في سرّه قبل علانيته، ويتّزن في قوله قبل فعله. فالتفاضل عند الله في التقوى، لا في الشهرة ولا في المنصب ولا في اللقب.

ومن ظنّ أنّه بلغ الكمال فقد دخله النقص من حيث لا يشعر؛ فكل علمٍ لا يقرّبك من الله يحتاج إلى علمٍ آخر يطهّره. وفي النهاية، سيتذكر الناس لا ما كنتَ تقول، بل كيف كنتَ تعيش ما تقول.

كلّ ما كان لله يبقى، وكل ما كان لغيره يفنى.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة