جرائم الإبادة في غزة مستمرة والإعلام البريطاني يشارك في تبييضها
تحوّل نظر العالم بعيدًا عن غزة، وباتت في نظر كثيرين قضية ثانوية. فبعد أكثر من عامين على هجمات السابع من أكتوبر، ومع استمرار حملة الإبادة الإسرائيلية القاسية، جرى التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار.
اتفاق توسط فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وانتهى بحفل أقيم في مصر في الثالث عشر من أكتوبر احتُفل فيه بـ”السلام في الشرق الأوسط”. وصف الرئيس الأميركي ذلك اليوم بأنه “تاريخي”، وأكد أنه “حقق ما قيل إنه مستحيل”.
لكن هذا الاتفاق وجد نفسه في خطر جسيم بعد أيام قليلة. ففي يوم الثلاثاء، صادق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على سلسلة غارات على غزة أسفرت عن مقتل أكثر من مئة فلسطيني، بينهم سبعة وأربعون طفلًا. فجأة بدا أن الهدنة التي صمدت بشق الأنفس باتت على حافة الانهيار، أو هكذا صوّر الإعلام البريطاني الوضع.

في كل وسائل الإعلام المهيمنة، وُصفت الأحداث بعدسة واحدة. في بثها المباشر، قالت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC): إن الغارات الإسرائيلية كانت “اختبارًا” لوقف إطلاق النار. أما صحيفتا “الغارديان” و”ذا تايمز” فقد استخدمتا الإطار ذاته، وهي اللغة التي كررتها أيضًا محطة “إل بي سي”. فيما نبّهت “سكاي نيوز” و”فايننشال تايمز” على “هشاشة” الهدنة.
قد يظن المراقب العابر أن وقف إطلاق النار، الذي دام أكثر من أسبوعين، بدأ يضعف تدريجيًّا بعد مدة وجيزة من التفاؤل. لكن الواقع أن العنف الإسرائيلي المنهجي لم يتوقف أصلًا، بل أُخفي تحت غطاء الإعلام البريطاني.
على الأرض، لم يكن الوضع أبعد عن صورة “الهدوء” التي رُوّجت. فالفلسطينيون في غزة ما زالوا يعيشون ظروفًا لا تُطاق، وكأنهم رهائن لسطوة إسرائيل واستعبادها. لا يمكن اعتبار انخفاض وتيرة القصف والتهجير والتدمير المؤقت “سلامًا” ما دام هذا العذاب قائمًا. الاختبار الحقيقي الوحيد هو إلى أي مدى يمكن تمديد تواطؤ الإعلام في التستر على الجرائم الإسرائيلية.
صورة مشوشة

خلال الأسبوعين الأولين من الهدنة المزعومة، قُتل ما لا يقل عن 94 فلسطينيًّا، فيما انتهكت إسرائيل الاتفاق 125 مرة، شملت 52 عملية إطلاق نار استهدفت المدنيين مباشرة، وتسعة توغلات لآليات عسكرية في مناطق سكنية، و55 قصفًا وهجومًا، و11 عملية هدم لمبانٍ مدنية، فضلًا عن اعتقال 21 شخصًا في أنحاء متفرقة من القطاع.
ومع ذلك، ظلت هذه التفاصيل غائبة. الصورة المعروضة كانت ضبابية عمدًا، والمشهد مشوَّهًا بقصد.
كتبت الصحفية الفلسطينية سارة عوّاد من غزة: “نجونا من الحرب، لكننا قد لا ننجو من الهدنة. لم يمرّ يوم من دون ضحايا… العنف لم يتوقف قطّ”.
إذا لم يتوقف إطلاق النار الإسرائيلي، فلا يمكن من حيث التعريف أن نسمي ما يحدث “وقفًا لإطلاق النار”. وظيفة الإعلام هي نقل هذه الحقيقة بموضوعية ودقة.
لكن الإعلام البريطاني، الذي دأب على تغليف الفظائع الإسرائيلية بالمصطلحات الملساء، وتصوير الجلاد ضحية، وتسويق الإبادة الجماعية تحت شعار “الدفاع عن النفس”، يبدو مصممًا على إثبات أن دفتر تبريراته لم يُستنفد بعد.
في الـ19 من تشرين أول/أكتوبر، أي بعد تسعة أيام فقط من بدء “التهدئة”، قتلت إسرائيل 11 فردًا من عائلة واحدة أثناء محاولتهم العودة إلى منزلهم في حي الزيتون بمدينة غزة، بينهم سبعة أطفال تمزقت أجسادهم بفعل القصف. جاء ذلك بعد أقل من 24 ساعة على غارات إسرائيلية أودت بحياة أكثر من أربعين فلسطينيًّا في رفح جنوب القطاع.
وفي اليوم نفسه، نشرت الـ(BBC) خبرًا بعنوان: “إسرائيل تقول إنها ستعود إلى وقف إطلاق النار بعد الغارات”. عنوان لا يقل فجاجة عن حريق يشعل صاحبه النار ثم يَعِد بإخمادها. المقال نفسه أعاد دون تمحيص الرواية الإسرائيلية بشأن “استهداف بنية تحتية إرهابية”.
خيانة المهنة

عامان من الادعاءات الإسرائيلية التي لم تُدعَم بأي دليل، إلى جانب سجلٍّ هائل من التدمير والمجازر ومحو المدن، لم يُعتبر كافيًا لذكره في التغطية.
فقد أعادت الـ(BBC) تسويق القصف الوحشي والمتواصل على أنه “عملية عسكرية محدودة”، في حين أُخفيت الضحايا عن الأنظار، وجرى تجاوز حقيقة أن ما حدث خرق جسيم للاتفاق. مهما بلغ هذا الانحدار من انعدام الضمير الصحفي، فإنها ممارسة أتقنتها المؤسسة الإعلامية البريطانية.
هي الجهة نفسها التي وصفت جريمة قتل فتى فلسطيني من ذوي الإعاقة على يد كلاب الجيش الإسرائيلي بأنها “الموت الوحيد لرجل من غزة مصاب بمتلازمة داون”.
وفي استمرارها في تقديم فهم مشوَّه ومنحاز للمشهد في غزة، لا تقف الـ(BBC) وحدها. ففي الـ20 من أكتوبر، نشرت صحيفة “ذا تايمز” تقريرًا عن الغارات نفسها، مؤكدة في العنوان أن “الهدنة ما زالت صامدة”. وأشارت إلى أن إسرائيل استهدفت مدرسة تُؤوي نازحين فلسطينيين، قبل أن تضيف في الجملة التالية أن تل أبيب “تريد الحفاظ على الهدنة”، رغم ارتكابها جريمة حرب تنسفها تمامًا.
هذا التلاعب المتعمَّد في الحقائق من صحيفة تُعَد “سجلّ بريطانيا الرسمي” هو مثال صارخ على صناعة الوهم. مشاهدة الحقيقة وبناء الخداع هذا هو الدرس التحريري الذي يطبَّق بحماسة عندما تكون إسرائيل طرفًا في القصة.
الخط الفاصل الذي قيل إنه يقسّم غزة إلى منطقتين -المنطقة التي كان يفترض أن تنسحب منها إسرائيل بموجب اتفاق الهدنة- تحوّل إلى ساحة قتل جديدة.
أما الخط الأصفر “غير المرئي” الذي يفترض أن يفصل القوات الإسرائيلية عن مناطق معينة في غزة، فقد صار مكانًا يُقتل فيه الفلسطينيون لمجرد الاقتراب منه.
وصفت “سكاي نيوز” أحد هذه الحوادث بعبارة: “الجيش الإسرائيلي يقول إنه أطلق النار على إرهابيين”. مرة أخرى، يُسمح لإسرائيل بأن تضع أسئلتها وتجيب عنها وحدها، وتُعامل روايتها كأنها حقيقة نهائية.
ذلك “الخط الأصفر” نفسه رمزٌ لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي، فهو يعزل مناطق مكتظة بالسكان، ويقطع الفلسطينيين الذين يعانون من المجاعة المصنّعة عن أراضيهم الزراعية ومصادر المياه، في حين تحتفظ إسرائيل بالتحكم الكامل في جميع المعابر، ويشمل ذلك معبر رفح مع مصر، لتبقي غزة تحت الحصار الكامل. إنها التجسيد العملي للتوسع وسرقة الأرض.
دعاية بالتجاهل

حين تناول قسم التحقق في (BBC Verify) القضية في مقال بتاريخ الـ23 من تشرين أول/ أكتوبر، لجأ إلى لغة مخففة. جاء في العنوان: “خط السيطرة الإسرائيلي أعمق في غزة مما كان متوقعًا”.
كلمات مثل “السيطرة” و”الحدود” و”العلامات” طغت على النص، وهي مصطلحات تقنية تُبعد القارئ عن الواقع الفعلي، في حين غابت الكلمة الوحيدة التي تصف الوضع كما هو: الاحتلال.
إن الدعاية عبر الإغفال باتت ظاهرة متكررة في تغطية الأحداث. فإسرائيل، إلى جانب استمرارها في قتل الفلسطينيين، واصلت خرق اتفاق الهدنة عبر منع دخول المساعدات الإنسانية عمدًا.
الاتفاق نصّ على إدخال 600 شاحنة مساعدات يوميًّا، لكن إسرائيل سمحت بأقل من ألف شاحنة خلال ثلاثة أسابيع كاملة، مانعةً أيضًا دخول العاملين في مجال الإغاثة. وقد وصفت منظمات إنسانية عدة أزمة الجوع في غزة بأنها “كارثية”.
وعند تغطية سيطرة إسرائيل على المعابر ومنع المساعدات، وصفت صحيفة “الغارديان” في الـ14 من أكتوبر الإجراء بأنه “تقييد للمساعدات ضمن نزاع”، ثم نقلت في الـ18 من تشرين أول/ أكتوبر أن إسرائيل ستُبقي معبر رفح مغلقًا “حتى إشعار آخر”، ما يعني فعليًّا حصار الفلسطينيين ومنعهم من السفر للعلاج.
لكن ما غاب في الحالتين هو الإشارة الضرورية إلى أن هذا يشكل عقابًا جماعيًّا وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. وفي أفضل الأحوال، صُوّرت الجريمة الإسرائيلية على أنها “أداة تفاوض”، ما أبقى القارئ في جهل متعمّد بطبيعة الجريمة.
الوسائل الإعلامية نفسها التي تتساءل اليوم عما إذا كانت الهدنة ستصمد، تعيد إنتاج التعتيم ذاته الذي مارسته طوال العامين الماضيين، لتمنح إسرائيل ستارًا مناسبًا لمواصلة قمعها المستمر للشعب الفلسطيني.
لا توجد هدنة للفلسطينيين. لم تكن هناك يومًا. فإسرائيل ما زالت ماضية في مشروعها لتكريس نزع الملكية والتطهير العرقي، في حين يواصل الإعلام البريطاني تواطؤه في تبييض جرائمها وتقديمها للعالم كدولة تدافع عن نفسها.
المصدر:Middle East Eye
اقرأ أيضًا:
- لماذا أرسلت بريطانيا قوات إلى غزة رغم وقف إطلاق النار؟
- مظاهرة حاشدة في بيرمنغهام تطالب بوقف تسليح اسرائيل
- في غزة، السلام يبدو غريبًا علينا
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
