الغارديان: هكذا عرضت نسرين مالك قصة وائل الدحدوح

كتبت نسرين مالك في مقال لصحيفة الغارديان: في الـ25 من أكتوبر 2023، كان وائل الدحدوح، رئيس مكتب قناة الجزيرة في غزة، في بث مباشر عندما شعر بحدوث أمر مأساوي. وعند الساعة الخامسة مساءً، كان يتحدث عن الغارات الجوية التي تتعرض لها المنطقة، مشيرًا إلى أنها “ستكون ليلة دموية” بينما كانت الكاميرات تعرض مشاهد الانفجارات في الأفق.
وخلال البث لاحظ الدحدوح قلق ابن شقيقه حمدان، المنتج في الجزيرة، وعندما سأله وائل عما يحدث، أخبره حمدان أن ابنته خُلود في المستشفى بعد تعرض المكان الذي كانت فيه عائلته للقصف. وبينما كانت المشاهد المروعة تُبث على الهواء، انتقل البث إلى الاستوديو في الدوحة، ما جعل وائل الدحدوح مذعورًا.
وبعد أن أغلق الخط، انطلق الدحدوح مسرعًا إلى مخيم النصيرات، الذي يبعد سبعة أميال، حيث كانت عائلته قد لجأت إلى منطقة آمنة. وعندما وصل بعد نحو أربعين دقيقة، رأى مشاهد مأساوية؛ الناس يحفرون بين الأنقاض بأيديهم، والدموع تتساقط على وجوههم. ومن بين الركام، التقى حفيده آدم البالغ من العمر 18 شهرًا، فاقدًا للوعي ومغطى بالغبار. وحمل وائل حفيده وأسرع به إلى مستشفى شهداء الأقصى.
استشهاد أفراد من عائلة وائل الدحدوح بقصف إسرائيلي

وفي المستشفى التقى الدحدوح بابنته خُلود، التي صُدمت لرؤية جثة ابن شقيقها في حضن والدها. بعد انهيارها، نهض الدحدوح بصعوبة وسلم آدم لأحد الأطباء، قبل أن يبدأ بالبحث عن بقية أفراد عائلته في ممرات المستشفى المزدحمة.
وبعد قليل، وصلت سيارة إسعاف تحمل ابنه يحيى، البالغ من العمر 12 عامًا، الذي كان يعاني من إصابات في رأسه، ولكنه كان واعيًا. ونقل الدحدوح ابنه إلى طبيب بدأ بخياطة جروحه على الفور، رغم صرخاته من الألم.
وبينما كان وائل يقف بجانب يحيى، وصل باقي أفراد العائلة، ويشمل ذلك ابنته الأخرى وأم زوجته. وعرف من بينهم أن زوجته واثنين من أبنائه الآخرين لا يزالون مفقودين، في حين تمكنت أم آدم وثلاث من بناته من النجاة. وتوجه إلى المشرحة المؤقتة، المعروفة بخيمة الشهداء، حيث تجمع حشود من الصحفيين والجمهور لتوثيق اللحظات الحزينة.
وداخل المشرحة، عثر الدحدوح على أبنائه الشهداء، محمود، البالغ من العمر 15 عامًا، وابنته شام، التي تبلغ سبع سنوات، وزوجته أمينة. احتضن ابنته شام وهو يشعر بالحزن، ثم ركع بجانب جثة زوجته وأمسك بيدها. وعندما وصل إلى جثة محمود، أطلق صرخته الأولى، معبرًا عن حزنه العميق بقوله: “بنتقموا منا عبر أطفالنا”.
مأساة وائل الدحدوح: لم أستطع البكاء على أطفالي مثل أي شخص آخر!

وبعد مغادرته المستشفى، بدأ الدحدوح بإجراء مقابلات لتوثيق ما حدث. وفي الهجوم الذي أسفر عن استشهاد زوجته واثنين من أبنائه، فقد أيضًا خمسة من أحفاد شقيقه، جميعهم دون سن العاشرة. كما أعلن وفاة حفيده آدم، الذي لم يتجاوز 18 شهرًا، بعد أن وُجد بين الأنقاض. وفي أول تصريح له بعد اكتشاف جثث عائلته، قال الدحدوح لزملائه في الجزيرة: “كنا نشك في أن الاحتلال الإسرائيلي سيعاقب الفلسطينيين في غزة جماعيًّا بسبب السابع من أكتوبر، وللأسف، هذا ما حدث”.
أصبح الدحدوح رمزًا للإصرار في مواجهة الفقدان. في الـ26 من أكتوبر، تابعته الكاميرات وهو يؤدي صلاة الجنازة على عائلته، حيث وقف ابنه يحيى بجانبه، ورأسه مضمد، ويداه متشابكتان على صدره. بعد الصلاة، مسح الدحدوح برفق رأس حفيده آدم، المغطى بكفن أبيض، للمرة الأخيرة قبل دفنه.
ورغم محاولات رؤسائه منعه من العودة إلى العمل، ظهر الدحدوح على الهواء بعد ساعات من دفن عائلته. وقد عبر عن استعداده لمواصلة التغطية الإعلامية، مؤكدًا أنه “واجب” عليه العمل بمهنية وشفافية في هذه الظروف الصعبة. ثم استأنف تقديم تقاريره عن الأوضاع في غزة.
وتجاوز تأثير الدحدوح حدود التغطية الإخبارية، حيث أصبح حديث العالم، وتظهر الجداريات التي تخلد ذكرى بطولته في إدلب شمال سوريا، وفي لندن ودبلن.
ومع ازدياد الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في نوفمبر، بدأ يدرك حجم التأثير الذي أحدثته قصته. وقد غطى الدحدوح أربع حروب في غزة على مدار العقدين الماضيين.
ولم يعد الدحدوح مجرد صحفي معروف، بل أصبح رمزًا لصمود أهل غزة. ومع تزايد المخاطر في الحرب، أصبح دور الدحدوح يحمل بعدًا آخر، ما جعله هدفًا محتملًا. ورغم خبرته الطويلة، كانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها بأنه قد يصبح مستهدفًا بسبب عمله.
من هو وائل الدحدوح؟

وُلد وائل الدحدوح عام 1970 في شمال غزة، في عائلة كبيرة تتكون من ثمانية إخوة وثماني أخوات. وعاشت عائلته هناك لعدة أجيال، حيث عملت في الزراعة. وكانت الحياة في قريتهم قاسية وتتطلب جهدًا بدنيًّا كبيرًا، لكن معظم مراحل طفولته كانت طبيعية، إذ كان لديهم ما يكفي من الطعام وسقف يُؤوي الجميع. وصف الدحدوح شبابه بأنه “فترة غنية”، حافلة بالنشاطات والأصدقاء، واعتبر “السباحة” “حبه الأول”، إذ كان يقضي إجازاته المدرسية في البحر.
وعندما كبر الدحدوح وإخوته، ترك بعضهم المدرسة للمساعدة في المزرعة، في حين لجأ آخرون للعمل في مواسم الزراعة. وعلى الرغم من أن والدهم كان شغوفًا بالتعليم وطموحًا لتحقيق حياة أفضل، فإن الاحتلال الإسرائيلي جعل الحياة أكثر صعوبة أمام من يسعى لتحقيق هذه الطموحات.
وفي عام 1988، حصل الدحدوح على منحة لدراسة الطب في العراق، لكن الانتفاضة الأولى التي اندلعت في ديسمبر 1987 عطلت خططه. قبل أيام من مغادرته، اقتحمت القوات الإسرائيلية منزله واعتقلته وهو في سن السابعة عشرة.
خلال ثلاثة أشهر من الاستجواب، حُكم عليه بالسجن 15 عامًا بتهمة “الأنشطة المعتادة للانتفاضة”، وفي إطار سياسة الردع، هدمت القوات الإسرائيلية منزل أسرته. على مدار سبع سنوات في السجن، لم يُسمح له إلا بزيارتين من عائلته.
وبعد الإفراج عنه في عام 1995، حاول الدحدوح مرة أخرى متابعة دراسته في مجال الطب، لكن السلطات الإسرائيلية منعته من السفر. وفي ظل عدم وجود كليات للطب في غزة، انضم الدحدوح إلى برنامج جديد لدراسة الإعلام في الجامعة الإسلامية في غزة، وتزوج خلال تلك الفترة. وفي عام 1998، بدأ العمل صحفيًّا في صحيفة “القدس”، ثم عمل مستقلًّا مع محطات الراديو والتلفاز خلال الانتفاضة الثانية.
وفي تلك الأثناء، تعرف الدحدوح إلى العديد من زملائه في مجال الصحافة، وكان جزءًا من جيل رائد في الإعلام في غزة. غطى كل الصراعات التي شهدها القطاع منذ انسحاب القوات الإسرائيلية في عام 2005. وقد شهد الدحدوح أحداث الهجوم الإسرائيلي الذي استمر 22 يومًا في عام 2008، والذي أودى بحياة 1400 شخص، معظمهم من المدنيين. ومع كل حرب، أصبحت المشاهد مألوفة له، فكان يشعر أحيانًا أنه في مسرح قتال، حيث تتكرر الأدوار بين جميع المشاركين، ويشمل ذلك أولئك الذين يفترض أنهم يراقبونه.
جبل غزة: وائل الدحدوح
يُلقب دحدوح بـ”الجبل”. قال لنسرين مالك: “أنا رجل عنيد”، مشيرًا إلى سبب عدم مغادرته بعد إصابته. لقد عانى من خسائر كثيرة، ورأى الموت عدة مرات، واقترب من الموت بنفسه حتى لم يعد يشعر بالخوف. بالنسبة له، “الحياة والموت” أصبحا شيئًا واحدًا، وكل ما كان يهتم به هو أنه عندما يأتي الموت، سيفاجئه “وهو واقف”. كان متأكدًا أنه ما دام على قيد الحياة، بصرف النظر عن إصاباته، سيبقى في غزة ويواصل التغطية.
لم يكن حمزة مجرد الابن الأكبر، بل كان سند دحدوح وظهيره. وقد تعلم حمزة الصحافة من والده، ثم انضم إلى الجزيرة. وعلى مر السنوات، وعندما كان دحدوح بعيدًا عن المنزل في أداء بعض المهمات، كان حمزة ينوب عنه. تحدث الدحدوح بفخر عن ابنه، مشيرًا إلى طيب معشره وكرمه وطموحه.
وفي أواخر ديسمبر، حصلت نقابة الصحفيين المصريين على الموافقة للدحدوح وأبنائه وزوجاتهم من أجل المغادرة في الـ2 من يناير عبر معبر رفح. بدؤوا الاستعداد، لكن في الليلة التي سبقت مغادرتهم، اكتشف دحدوح أن قائمة الأسماء المعتمدة كانت تفتقد أسماء ابنة واحدة واثنين من الأحفاد.
خلال الأيام القليلة التالية، بينما كان دحدوح ينتظر استكمال الأوراق، ظل في خان يونس مستمرًّا في تغطيته الإخبارية، في حين كان حمزة يغطي الأحداث في رفح، موثقًا آثار الضربات الجوية، خصوصًا تلك التي وقعت بالقرب من المستشفى الكويتي الذي كان يعمل فيه.
اغتيال الصحفي حمزة نجل المراسل وائل الدحدوح
وفي الـ7 من يناير، بينما كان الدحدوح في الميدان، تلقى خبر إصابة حمزة. فتوجه إلى موقع الهجوم، وعندما نظر إلى السيارة التي كان ابنه فيها، وعرف أنه قد استشهد.
وفي يوم جنازة حمزة، تجمع الناس حول الدحدوح، وأصبح مرة أخرى جبلًا يعبر عن حزن مجتمع بأسره. تجمع الأطفال حوله وهو يتلقى التعازي، وضعت امرأة مسنّة يدها على رأسه ودعت له. كانت مأساة الدحدوح خبرًا عالميًّا، حيث وصف وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، الذي كان في الدوحة في ذلك الوقت، بأن ما حدث “خسارة لا يمكن تصورها”. بوصفه أبًا، لم يستطع “تخيل الرعب” الذي عاشه الدحدوح “مرتين لا مرة واحدة”.
وخلال حديثه مع نسرين في الدوحة، اقترحت على الدحدوح أن يأخذ استراحة عدة مرات وعرضت عليه العودة لاحقًا إذا كان يفضل ذلك. لكنه رفض، مؤكدًا أنه يحتاج إلى إخراج كل شيء دفعة واحدة. الاستراحة الوحيدة التي قبلها الدحدوح خلال ساعات الحديث كانت عندما وصلوا إلى حمزة، الذي كان يحتل مكانة خاصة لديه.
بعد يومين من استشهاد حمزة، توجه الدحدوح مع عائلته إلى الحدود، ومعه قائمة كاملة بالمغادرين. تأكد من أن الجميع سيُسمح لهم بالعبور بأمان، ثم، كما كان مخططًا دائمًا، عاد أدراجه. بقي مكانه في غزة، حتى لو بدا أن الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن يُستشهد هو أيضًا.
ولكن بعد بضعة أيام من عبور عائلته، بدأ الدحدوح يتراجع. لقد غيّرت وفاة حمزة كل شيء. وصف رشدي أبوالوف، الذي يعرف الدحدوح منذ 30 عامًا، ذلك بأنه “الضربة القاضية”. بلا حمزة، أصبحت مشاعر الدحدوح مختلطة بشأن مصير عائلته في الخارج. وبدا أن فكرة المغادرة، التي كان قد رفضها سابقًا، أصبحت أكثر إقناعًا. قال الدحدوح: “في الحرب، هم النساء والأطفال”، موضحًا تغير رأيه، “هم من يكسرون ظهرك”. في جنازة حمزة، قبّلت إحدى بنات الدحدوح جثة شقيقها ثم لفّت يديها حول والدها، وهي تبكي، وتوسلت إليه قائلة: “من فضلك ابق معنا، لم يتبق لدينا أحد سواك”.
وفي الـ16 من يناير، عبر دحدوح إلى مصر ثم غادر إلى الدوحة. وسلم مسؤولية العمل الصحفي إلى إسماعيل الغول، الصحفي الأصغر منه في شمال غزة، وهو أخطر جزء من القطاع. وأخبره الدحدوح أنه إذا رغب في التوقف عن العمل والبحث عن ملاذ مع عائلته في الجنوب، فلن يلومه أحد. إلا أن الغول رفض ذلك. وبعد بضعة أشهر، استشهد.
المصدر: الغارديان
إقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇