العرب في بريطانيا | كيف يحافظ المرء على هويّته في مجتمع متغيّر؟

1447 رجب 5 | 25 ديسمبر 2025

كيف يحافظ المرء على هويّته في مجتمع متغيّر؟

Artboard 2 copy 4-1 (4)
وئام حلّاق December 25, 2025

في زمنٍ تتسارع فيه التّحولات الثّقافيّة والاجتماعيّة، تبرز مسألة الهويّة والانتماء كواحدةٍ من أكثر القضايا إلحاحًا في حياة الفرد. فالتّغيّر المستمرّ يدفع الإنسان إلى إعادة التّفكير في موقعه بين العالم القديم والعالم الجديد، بين ما يرثه وما يختاره.

ومع تعدّد المؤثّرات وتداخل الثّقافات، يصبح الحفاظ على الهويّة تحدّيًا يتطلّب وعيًا عميقًا بملامح الذات وقدرة على التّمييز بين الثّابت والمتغيّر. من هنا تتشكّل أهميّة السّؤال عن كيفيّة صون الهويّة في مجتمع سريع الحركة ومتعدّد الاتّجاهات.

وعلى الرّغم من أنّ كثيرًا من النّاس يغادرون أوطانهم اليوم بحثًا عن العمل أو الأمان أو فرصٍ جديدة، إلّا أنّ الابتعاد الجغرافيّ لا يعني بالضّرورة ابتعادًا عن الهويّة أو تخلّيًا عن الانتماء. فالفرد لا يترك جذوره عند حدود المطار، بل يحملها معه أينما ذهب.

بل إنّ الاغتراب قد يجعل شعور الانتماء أشدّ وضوحًا وحضورًا، إذ يدفع الإنسان إلى أن يكون أكثر حرصًا على متابعة أخبار بلده، وفهم ما يشهده من تغيّرات، وأن يبقى حاضرًا في قضاياه مهما ابتعد عنه. فالهويّة ليست مجرّد مكانٍ نعيش فيه، بل هي وطنٌ نحمله في صدورنا قبل أن نحمله في أفكارنا، ونظلّ مرتبطين به بقدر ما نحافظ على قيمه وذكرياته ومعانيه في حياتنا اليوميّة.

ومع تسارع الانفتاح وانتشار العولمة، باتت المجتمعات تتقارب بشكل غير مسبوق، حتى بدأ الكثيرون يشعرون بأنّ ملامح ثقافتهم الخاصّة تتراجع أمام تأثيرات الثّقافات الأخرى. وفي مثل هذا الزمن، يصبح تمسّك الفرد بهويّته ضرورةً لا مجرّد خيار، لأنّ الهويّة هي البصمة الّتي تمنحه تفرّده وسط عالم يميل إلى التّشابه.

وليس المقصود هنا رفض الآخر أو الانغلاق عنه، بل أن يبقى الإنسان واعيًا لجذوره، مدركًا لقيمه وموروثه، معتزًّا بذاته قبل أن ينجذب لأيّ نموذج جاهز يقدّمه العالم. فالتّفاعل مع الثّقافات الأخرى أمرٌ صحيٌّ ومفيدٌ، لكنّه لا ينبغي أن يكون على حساب الهويّة الأصليّة التّي تمنح الإنسان معنًى، وتحدّد له موقعه بين الشّعوب.

هكذا يستطيع الفرد أن يعيش انفتاحًا واعيًا، يجمع بين احترام التنوّع وصون الذات في آنٍ معًا. فإنّ السّفر يكشف عن “الكمّ السرّي” الحقيقيّ للهويّة، إذ يظهر مدى تمسّك المرء بلغته الأم، وطريقة لبسه، وعاداته وتقاليده.

فحين يصرّ الإنسان على أن يحافظ على هذه التّفاصيل الصّغيرة وهو بعيدٌ عن أرضه، يدرك أنّ الهويّة ليست مجرّد عنوان أو مكان، بل أسلوب حياة يتتبّعك أينما ذهبت، وتستحضره حين تتحدّث بلغتك، أو عندما ترتدي ما يشبه جذورك، أو تمارس طقوسك اليوميّة الّتي تربّيت عليها. وهكذا يصبح الاغتراب فرصةً لإعادة اكتشاف الذات، وتعزيز الانتماء بدل فقدانه، بل نورًا نحمله في داخلنا.

وهكذا يصبح الانتماء جسرًا بين وطنين لا خصومة بينهما: الوطن الّذي نشأنا فيه، والوطن الّذي استقبلنا وفتح لنا أبوابه. وما دام الفرد يعيش هذا التّوازن بوعيٍ واحترام، فإنّه يظل وفيًّا لماضيه، منفتحًا على حاضره، قادرًا على أن يكون ذاته في عالمٍ يتغيّر كلّ يوم.


اقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

آخر فيديوهات القناة