حين تثمر الأرواح: فلسفة عطاء النفس
ليس العطاء ما تُنفقه اليد، بل ما تهبه الروح.
فالعطاء الحقيقي لا يُقاس بالمال ولا بالكلمات، بل بما تُفيضه النفس من صدقٍ ونُبلٍ وإحسانٍ حين لا يراها أحد.
النفس التي تتعلّم معنى العطاء تُصبح كالنهر؛ لا يُبقي في جوفه شيئًا، يسقي الأرض ويُحيي القلوب، ثم يُواصل جريانه دون أن ينتظر جزاءً أو شكورًا.
العطاء روح الوجود
منذ خُلق الإنسان، كان العطاء جوهر وجوده؛ فالله منحنا الحياة لتكون امتحانًا في الكرم والمروءة والرّحمة.
وفي كل نفسٍ بذرةُ خيرٍ تنتظر أن تُروى بالإيمان والنية الطيبة لتُثمر عملًا نقيًّا يُباركه الله.
إنه حاجة روحية، كأن النفس لا تكتمل إلّا حين تمنح؛ ولهذا حين تُحب تُعطي بلا تردّد، وحين تُخلص تُنفق من ذاتك قبل وقتك.
حين تُعطي النفس من ذاتها
قد تُعطي مالًا أو علمًا أو وقتًا، لكن أسمى العطاء أن تُعطي من نفسك: أن تمنح من روحك نورًا لمن أنهكه الظلام، أن تبتسم لمن أثقلته الأيام، أن تُنصت بقلبك لمن أنهكته الوحدة.
ذاك هو العطاء الذي لا يُعلَّم في الكتب، بل يُزرع في القلوب ويُسقى بالرّحمة والتجربة والتعب الذي يُنضج الإنسان.
النفس التي تُحبّ الخير للناس، وتفرح بسعادتهم، وتخفّف عنهم، هي نفسٌ طيبة لم تُدنّسها الأنانية، ولم تُطفئها قسوة الدنيا.
ومن يُعطي من ذاته لا يخسر شيئًا؛ بل يزداد غنًى في قلبه، وضياءً في روحه، لأن العطاء طاقة تتضاعف كلما وُزّعت، وكل حبٍّ تُرسله يعود إليك في هيئة سلام.
العطاء بين الأخذ والصبر
قد يبدو العطاء تضحية، لكنه في جوهره توازنٌ بين الأخذ والمنح؛ فكما تُعطي، عليك أن تتعلّم القَبول والشكر والصبر.
النفس التي تُعطي بلا وعي تُستنزف، أما التي تُعطي بوعيٍ فيباركها الله.
ومعنى ذلك أن تُدرك أن أجمل ما تقدّمه للعالم هو نفسك المتصالحة، الساعية إلى الخير من غير أن تنكسر.
فالعطاء قوّة لا يمتلكها إلّا النبلاء؛ يحتاج إلى شجاعةٍ، لأنك حين تُعطي، تُواجه جشع العالم بابتسامة وتقول له: “لا يزال في قلبي خير”.
عطاءٌ في وجه الألم
أعظم صور العطاء تلك التي تصدر من قلبٍ مجروحٍ ما زال قادرًا على الحبّ رغم الخذلان.
النفس التي تتألّم وتواصل العطاء تُشبه شمعةً تذوب لتُضيء لغيرها، لكنها لا تندم.
فهذا النوع من العطاء لا يصدر إلّا عن أرواحٍ ذاقت مرارة الفقد، ووجدت في الإحسان دواءها، وفي العون سلواها.
هؤلاء يُعطون لأنهم عرفوا معنى الحاجة، ولأنهم جرّبوا الوجع فصاروا أرقَّ إحساسًا بوجع الآخرين.
العطاء في الصمت
ليس كل عطاءٍ يُقال، فبعض العطاء صامتٌ كالدعاء في ظهر الغيب، كالتسامح في الخفاء، كالصبر حين يُخطئ فيك من تُحبّ.
ذلك العطاء أعمق من الكلام، لأنه يولد من صدقٍ خالصٍ لا يطلب تقديرًا ولا انتظارًا.
وكم من نفسٍ منحت حبًا وسلامًا في صمت، فغيّرت حياة من حولها دون أن تدري!
ثمرة العطاء
حين تُعطي النفس، فهي لا تزرع في الآخرين فقط، بل في ذاتها أيضًا.
فالعطاء يُطهّر النفس من الحسد والضغينة، ويُعيد إليها صفاءها الأول، ويُذكّرها أن السعادة ليست في الامتلاك، بل في المشاركة.
كل فعل خيرٍ، مهما بدا صغيرًا، يُعيد للنفس توازنها، كأنها تُشفى شيئًا فشيئًا من ثقل الحياة.
ولذلك، كلما أعطيت، وجدت نفسك أخفّ، أصفى، وأقرب إلى الله.
فالله يُحبّ المحسنين، ويجعل في عطائهم بركة لا تُقاس، ويحوّل الحياة إلى معنى، ويمنح القلب يقينًا بأن الخير لا يضيع، وأن ما يُزرع في السرّ يُثمر في العلن.
العطاء ليس مجرّد سلوكٍ اجتماعيّ، بل فلسفة وجود: أن تكون نورًا في عالمٍ يزداد عتمةً، أن تُقاوم القسوة بالرّحمة، وأن تُثبت أن الإنسانيّة ما زالت ممكنة.
فأعطِ ما استطعت، ولو كلمة طيبة، ولو نظرة حنان، أو صبرًا جميلًا، لأن ما تُقدّمه اليوم قد يعود إليك غدًا على هيئة طمأنينةٍ لا تُشترى.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇

رائعه جدا… العطاء من النفس والفكر يكتبنا نحن قوه وراحه بال .