بعد توقف الإبادة.. عائلات غزة تبدأ رحلة البحث بين الركام عن جثامين أحبائها

بأيدٍ عارية وأدوات بدائية، يبدأ الفلسطينيون مهمة شاقة بحثًا عن رفات أحبائهم المدفونين تحت أنقاض منازلهم في شمال غزة، بعد وقف إطلاق النار الأخير الذي أنهى شهورًا من القصف الإسرائيلي العنيف.
أمضى غالي خضر يومين كاملين في محاولة إقناع والديه بمغادرة منزل العائلة في جباليا والانتقال معه إلى جنوب القطاع، محذرًا من خطورة البقاء. لكن والده، الذي عُرف بعناده، رفض المغادرة. بعد أيام، أصابت غارة جوية إسرائيلية منزل العائلة، ودفنت الوالدين تحت الركام.
يقول خضر، البالغ من العمر 40 عامًا: “كان والدي، وهو سائق إسعاف متقاعد، رمزًا للصبر والشجاعة. لم يعرف الخوف يومًا”.
بعد وقف إطلاق النار بيومين، عاد خضر إلى المكان ذاته، يقلب الحجارة ويزيح الركام بيديه؛ بحثًا عن أي أثر لوالديه. لم يجد إلا شظايا من جمجمتيهما وبعض بقايا أيديهما، فقرر دفنهما بجوار القبور القليلة التي لم تُدمّر في المقبرة القريبة.
بحث بين الركام ووداع ناقص
ومثل خضر، عاد آلاف الفلسطينيين إلى شمال غزة منذ وقف إطلاق النار، حاملين معهم أملًا ضعيفًا في العثور على أحبائهم المفقودين. وتشير تقديرات هيئة الدفاع المدني في غزة إلى أن جثامين نحو 10 آلاف شهيد ما زالت عالقة تحت الأنقاض المنتشرة في أرجاء القطاع.
العمل الإنساني أمام فرق الإنقاذ يبدو هائلًا؛ فهناك ما يُقدَّر بنحو 60 مليون طن من الركام تغطي الشوارع والمنازل، فيما تعاني الفرق من نقص حاد في المُعَدات الثقيلة، ما يضطرها للاعتماد على أدوات يدوية بسيطة كالحمّالات والمعاول. كما أن كثيرًا من المناطق ما تزال تحتوي على قنابل وذخائر غير منفجرة، ما يضاعف المخاطر.
يقول خالد الأيوبي، مدير الدفاع المدني في شمال غزة: “نبدأ أولًا بجمع الجثث التي في الشوارع قبل أن تنهشها الكلاب الضالة، ثم ننتقل إلى الحفر في المباني المدمّرة”.
حتى الآن، تمكّنت الفرق من استخراج جزء صغير فقط من المفقودين، ولم تبدأ بعدُ العمل في الأبراج السكنية المنهارة. ويرى الدكتور محمد المغير، مدير الدعم الإنساني والتعاون الدولي في الدفاع المدني، أن “إتمام عملية الانتشال بالكامل قد يستغرق ستة أشهر إلى عام، إذا سُمح بدخول المُعَدات اللازمة من إسرائيل”.

لكن كثيرين لا يملكون رفاهية الانتظار. فمع عودة السكان تدريجيًّا، بدأ بعضهم بالحفر بأنفسهم بحثًا عن ذويهم. من بينهم يحيى المقرة، 32 عامًا، الذي فقد الاتصال بشقيقه شريف بعد غارة إسرائيلية على منزلهم في يوليو الماضي. زار الموقع المدمّر أكثر من مرة، لكنه لم يجد أي أثر له. “كأنه تبخّر”، يقول يحيى، ّلم يبقَ من البيت سوى كومة أنقاض”.
يعاني شريف من الصرع، ويخشى شقيقه أنه إن لم يمت في الغارة، فقد يكون قد فارق الحياة لاحقًا لعدم توفر أدويته. “أتمنى فقط أن أجد شيئًا يثبت وجوده هناك، قطعة ملابس، أي شيء… نحن بحاجة ماسة إلى آلات للحفر، لكننا لا نملك إلا أيدينا”.
بالنسبة لكثير من العائلات، فإن ألم الشك والترقب يفوق ألم الفقد نفسه. يريدون فقط أن يجدوا بقايا من أحبائهم ليتمكنوا من وداعهم ودفنهم بكرامة. وهذا ما يدفع رجال الإنقاذ في غزة إلى مواصلة عملهم رغم قلة الإمكانات وظروف الخطر المستمر.
يقول فادي الصليبي، أحد عمال الدفاع المدني: “العائلات تشعر أن انتشال جثث أحبائها هو تكريم لهم وتأكيد على أنهم شهداء حقًّا، لا مفقودون”.
أما يحيى المقرة، فما زال يأمل العثور على شقيقه بين الأنقاض. ومع تدمير المقابر القريبة، يفكر في دفنه داخل حديقة منزله إن عثر على جثمانه. ويقول: “قلبي يتفطر لأن أخي لم يُدفن بعد. حتى عظمة واحدة ستمنحنا السلام”.
تُبرز هذه المأساة الإنسانية حجم الدمار الذي خلّفته الحرب في غزة، ليس في الأرواح والمباني فقط، بل في وجدان الناس الذين فقدوا معنى الأمان والانتماء. ترى منصة العرب في بريطانيا (AUK) أن استمرار القيود المفروضة على دخول المُعَدات الإنسانية إلى القطاع يُعد انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان ويُعرقل جهود التعافي. إن إنقاذ ما تبقّى من الكرامة الإنسانية في غزة يبدأ بالسماح للناس بدفن موتاهم بسلام، وبإطلاق مسار حقيقي للمساءلة والعدالة.
المصدر: الغارديان
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇