وسط تناقضات المشهد السياسي البريطاني، تتجلى مفارقة صارخة تتعلق بالنظام الصحي الوطني (NHS)، وقطاع الرعاية الاجتماعية، والخطاب المتزايد حدة حول الهجرة. ففي الوقت الذي تعتمد فيه المملكة المتحدة على مئات الآلاف من المهاجرين للحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات الصحية والاجتماعية، يستمر الخطاب السياسي في إنكار هذه الحقيقة، مما يفاقم من حالة النفاق السائدة.
تجربة شخصية تعكس الواقع القائم
قبل أسابيع قليلة من عيد الميلاد الماضي، تعرض والدي، الذي سيبلغ من العمر 89 عامًا الشهر المقبل، لحادث سقوط خطير من على درج منزله، أدى إلى إصابته بكسر في الورك. وبعد انتظار طويل ومقلق لوصول سيارة الإسعاف، نُقل إلى مستشفى في ماكليسفيلد، شيشاير، حيث خضع لعملية جراحية. في ظل أزمة الشتاء القاسية التي يشهدها النظام الصحي، بدا مستوى الرعاية الطبية التي تلقاها أشبه بمعجزة. لكن ما لفت انتباهي بشكل خاص هو أن غالبية الأطباء والممرضين الذين تولوا رعايته كانوا من المهاجرين، غالبيتهم من دول أفريقية أو من الهند. كانوا يعملون تحت ضغط هائل، لكنهم تعاملوا مع استفساراتي المتكررة بصبر وأدب بالغين.
أمضى والدي ستة أسابيع في جناح الإصابات العظمية، وخلال زياراتي المتكررة، كنت أتابع التناقض الصارخ الذي يعكس واقعًا متكرراً في مختلف أنحاء البلاد. ففي الوقت الذي كنت أتابع فيه الأخبار عبر هاتفي، أو من خلال الأجهزة اللوحية الخاصة بالمرضى الآخرين، كانت العناوين الرئيسية تركز على أزمة الهجرة والاندماج، بينما كانت الصحف التي يختارها المرضى، مثل “ديلي ميل” و”إكسبريس”، تعجّ بالتحذيرات من تدفق الأجانب وادعاءات بانهيار البلاد. ومع ذلك، كانت الحقيقة ماثلة أمام الجميع: لولا المهاجرون، لما كان هناك من يقدم الرعاية الصحية لهؤلاء المرضى.
دور المهاجرين في قطاع الرعاية الاجتماعية
في منتصف يناير، نُقل والدي إلى دار رعاية في ضواحي مانشستر لاستكمال فترة إعادة التأهيل والعلاج الطبيعي. هناك، كان جميع المرضى تقريبًا من البريطانيين البيض، بينما كان معظم العاملين من المهاجرين. الممرضة الرئيسية التي اعتنت بوالدي جاءت من ولاية كيرالا الهندية، في حين أن معظم المسؤولين عن الدار كانوا من الفلبين. كانوا يتحملون مهامًا شاقة يوميًا، من مساعدة المرضى على النهوض من الفراش إلى تقديم الدعم العاطفي لهم، وهو عمل يتطلب قدرًا هائلًا من الصبر والتفاني.
تشير الإحصائيات إلى أن 28% من الممرضين في النظام الصحي الوطني ليسوا من حملة الجنسية البريطانية، بينما تصل النسبة بين الأطباء إلى 35%. وفي لندن، يشكل المهاجرون 30% من القوى العاملة في القطاع الصحي، بينما تقدر نسبة العاملين في قطاع الرعاية الاجتماعية من غير البريطانيين بـ 32%. ومع ذلك، خضع هؤلاء العاملون منذ مارس الماضي لقاعدة جديدة تحظر عليهم إحضار أفراد عائلاتهم للإقامة معهم في بريطانيا، مما أدى إلى انخفاض حاد في عدد طلبات التأشيرات المخصصة لهذا القطاع.
وتنعكس هذه السياسات بشكل مباشر على أزمة النظام الصحي، حيث يُشغل نحو سدس أسرّة المستشفيات بأشخاص مؤهلين للخروج ولكنهم ينتظرون تأمين الرعاية الاجتماعية اللازمة لهم. وتشير التقديرات إلى وجود 130ألف وظيفة شاغرة في قطاع الرعاية الاجتماعية، في وقت وصف فيه الرئيس التنفيذي لـ “كير إنجلاند”، مارتن غرين، قرار حظر استقدام أسر العاملين بأنه “قصير النظر ومدمر بشكل عميق”.
تصاعد الخطاب العدائي ضد المهاجرين
القطاع الصحي البريطاني NHS ينفق 40 مليون باوند على معدات رعاية مرضى السمنة
في المقابل، يتزايد الخطاب العدائي تجاه المهاجرين داخل أروقة السياسة البريطانية. ففي تصريح سابق، تساءلت وزيرة الأعمال والتجارة، كيمي بادينوك، عما إذا كان ينبغي التفكير في مستقبل الأجيال القادمة أم الاكتفاء بالبحث عمن “يمسح مؤخراتنا اليوم”، في إشارة ساخرة ومهينة إلى دور العاملين في الرعاية الصحية. وهي نفسها من تدفع اليوم باتجاه سياسات أكثر تقييدًا، من بينها فرض فترة انتظار لمدة 15 عامًا قبل التقدم بطلب للحصول على الجنسية البريطانية، بالإضافة إلى حرمان المهاجرين من الإقامة الدائمة إذا كانوا قد استفادوا من المساعدات الاجتماعية.
أما حزب العمال، الذي يسعى للفوز في الانتخابات المقبلة، فيبدو أنه ينزلق إلى نفس المنحى، حيث أعلن زعيمه كير ستارمر عن التزامه بـ”خفض الهجرة – القانونية وغير القانونية”، متهمًا المحافظين بتبني سياسة “الحدود المفتوحة”. ورغم أن الحزب كان بإمكانه اتخاذ نهج أكثر واقعية عبر الاستثمار في الإسكان الاجتماعي، وإنهاء سياسات التقشف المحلي، وإصلاح قطاع الرعاية الصحية لتشجيع البريطانيين على العمل فيه، إلا أن هذه الحلول تبدو مستبعدة في ظل الأولويات الحالية.
هل تدرك بريطانيا حجم أزمتها؟
عاملو الصحة في بريطانيا يحاصرون مكتب شركة متعاقدة مع الـNHS بمليون باوند
في المجتمعات التي تعتمد على العمالة المهاجرة، ينبغي أن يكون الشعور السائد هو الامتنان، لكن الواقع السياسي في بريطانيا يعكس مزيجًا من الغضب والرفض لهذه الحقيقة. فقبل سنوات قليلة، خرج ملايين البريطانيين لتحية “العمال الأساسيين” بالتصفيق، أما اليوم، فالساسة يسعون إلى تقييد حياتهم وتقويض حقوقهم. وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن المستقبل الذي ترسمه الطبقة السياسية البريطانية سيكون يومًا ما واقعًا تعيشه شخصيات مثل بادينوك وستارمر ونايجل فاراج، عندما يجدون أنفسهم في حاجة إلى رعاية ولا أحد يجيب على نداء الاستغاثة.