العرب في بريطانيا | وهم الكمال على وسائل التّواصل

1447 جمادى الثانية 1 | 22 نوفمبر 2025

وهم الكمال على وسائل التّواصل

وهم الكمال على وسائل التّواصل
أميرة عليان تبلو November 21, 2025

في السّنوات الأخيرة، تحوّلت وسائل التّواصل من مساحةٍ للتّواصل والمشاركة البسيطة إلى منصّة ضخمة لعرض النّجاحات، والمظاهر، واللّحظات المنتقاة بعناية. صارت حياة النّاس تبدو مثاليّةً: وجوه مبتسمة، بيوت أنيقة، سفر متواصل، أجساد مثاليّة، وإنجازات تتدفّق بلا توقّف. وهنا تبدأ المشكلة… حين ينظر الفرد إلى كلّ هذا الزخم، ويقارن ما يراه بما يعيشه، يشعر فجأة أنّ حياته ناقصة، وجهده غير كافٍ، وكأنّه دائماً في المرتبة الأدنى.

ليست المقارنة ظاهرة جديدة؛ فالإنسان بطبيعته كائن يحبّ القياس والتّقييم. لكن الخطورة اليوم تكمن في حجم المعلومات وسرعة تدفّقها، وفي الطّريقة الّتي تُعرض بها. فمعظم ما نراه على وسائل التّواصل ليس حقيقة كاملة، إنّما “لقطة واحدة” من مئات اللّحظات، قُطفت بعناية، وعُدّلت، وصُفّيت، ثم وُضعت أمامنا وكأنّها الواقع الحقيقي. وهكذا تصبح المقارنة غير عادلة، لأنّنا نقارن حياتنا غير المنقّحة، المليئة بالتّعب والتّفاصيل، بحياة الآخرين المفلترة والمثاليّة.

تتسلّل هذه المقارنات إلى النّفس بهدوء، وتبدأ تُنتج شعوراً بالضّغط الداخلي: لماذا لا أعيش مثلهم؟ لماذا لا أبدو مثلهم؟ لماذا حياتي بطيئة، بينما الجميع يركض نحو النّجاحات؟ هذا النوع من التفكير يخلق فجوةً كبيرةً بين الذات وبين الصورة التي يتخيّلها الإنسان عن نفسه. ومع تكرار المقارنة، يصبح الشخص غريباً عن واقعه، يتعب من ملاحقة صورة ليست صورته، ويشعر أنّه محروم من شيء لا يعرف ما هو بالضّبط.

الأخطر من ذلك أنّ المقارنة تُضعف القدرة على تقدير الذات؛ فالإنسان الّذي يظلّ يطالع نجاحات الآخرين يشعر أن ما يحقّقه صغير لو كان إنجازاً كبيراً بالنّسبة لظروفه. لا يعود يرى جهده، ولا يعترف بما أنجزه؛ لأنّ عينه معلّقة على ما أنجزه غيره. وهذه الحالة هي إحدى أسباب تراجع الرّضا عن الحياة، وزيادة القلق والاكتئاب لدى فئات واسعة من الشّباب.

لكن المفارقة أنّ الحياة الحقيقيّة ليست في الصّور المنشورة، المفارقة في التفاصيل اليومية الّتي لا تُرى: تعب العمل، دموع اللّيل، المحاولات الفاشلة، العلاقات الّتي تُبنى ببطء، والنّجاحات الّتي تأتي بعد سنوات. كلّ هذا لا يظهر أمام النّاس. وهذا يعني أنّ المقارنة ليست فقط غير عادلةٍ، بل غير منطقيّةٍ أساساً.

وللخروج من هذه الدائرة، يحتاج الإنسان إلى أن:

  • يعيد ضبط بوصلة نظرته
  • أن يفهم أنّ وسائل التّواصل مساحةٌ للعرض وليس للقياس
  • أن يدرك أنّه ليس مجبراً على العيش بنفس سرعة الآخرين ولا على تكرار تجاربهم، وأنّ قيمته لا تُقاس بعدد المتابعين ولا بعدد الرّحلات ولا بعدد الصّور الجميلة.

إنّ أفضل مقارنة يمكن للإنسان أن يقوم بها هي مقارنة نفسه بنفسه: كيف كان بالأمس، وكيف أصبح اليوم. وحدها هذه المقارنة تمنحه الدّافع، وتعيد إليه ثقته، وتجعله يعيش حياته بطريقة أكثر واقعيّةً وراحةً.

وفي النّهاية، تبقى الحقيقة بسيطة: الحياة ليست سباقاً، ولا منصّة تنافس. كلّ شخص يحمل قصّته الخاصّة، وظروفه الخاصّة، وزمنه الخاصّ، وما نراه أمامنا ليس معياراً لنا، بل مجرّد نافذةٍ صغيرةٍ على حياة الآخرين… نافذة لا تُظهر كلّ شيء.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

التعليقات

آخر فيديوهات القناة