هجوم قطار هنتنغدون.. هل تواجه الخطر أم تختار النجاة؟ كلا الخيارين مهمان
أثار الهجوم الدموي الذي وقع على ركاب القطار في مقاطعة كامبريدجشير نهاية الأسبوع الماضي سؤالًا وجوديًا يتردّد في أذهان كثيرين: ماذا لو كنت أنا هناك؟ كيف كنت سأتصرّف؟ وهل كنت سأقاوم أم أفرّ؟
منّا من يتخيّل نفسه يندفع لإنقاذ الآخرين، يقف في وجه المهاجم غير آبهٍ بالخطر. ومنّا من يدرك أن قدميه ستسبقانه إلى النجاة. وهناك من يظن أنه، رغم خوفه، سيبقى قليلًا إلى جوار من يحتاج المساعدة.
بين غريزة القتال والفرار
يُختزل ردّ الفعل الإنساني في الخطر غالبًا بثنائية “القتال أو الفرار” (Fight or Flight)، غير أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك. فإلى جانب هاتين الغريزتين، يمتلك الإنسان دافعًا ثالثًا لا يقل قوة: دافع “العناية والمساندة” (Tend and Befriend)؛ تلك الرغبة الغريزية في حماية الآخرين والاطمئنان عليهم.
ومن خلال عملي في علم نفس الشرطة، رأيت مرارًا أن أصعب ما يواجه فرق الإنقاذ ليس دوّامة الفوضى بحد ذاتها، بل هرع العامة إلى موقع الخطر، ليس لمواجهة المهاجم، بل للبحث عن أحبّائهم. فعندما يقترب الخطر، أول ما يفعله الإنسان هو أن يجمع من يحب حوله، ثم تمتد غريزته لحماية كل من يتأذى أمامه.
الفرار ليس جبنًا
من المهم أن نذكّر أنفسنا بأن الخوف لا يُنقص من الشجاعة، وأن الهرب ليس نقيض الكرامة، بل استجابة فطرية للبقاء. فإذا واجهك شخص يحمل سلاحًا، فخوفك طبيعي وفرارك حكيم. لكن بعد أن تأمن الخطر، تبدأ غريزة أخرى في العمل: غريزة العودة إلى من سقطوا، إلى من يحتاجون يدًا تمتدّ إليهم. هذه هي صورة “الرعاية والتضامن” حين تتحرك في أعماقنا دون وعي.
ففي مواجهة الموت، يولد بين البشر رابط خفيّ، يجعل من نجاة الآخرين جزءًا من نجاتنا نحن.
كيف تتشكّل ردود أفعالنا في لحظة الأزمة؟
يتشكّل سلوكنا في الأزمات تبعًا للصورة التي نحملها عن أنفسنا. من يتخيّل نفسه دائمًا شجاعًا أو مسعفًا، يبني في عقله “نموذجًا ذهنيًا” يوجّه تصرّفاته حين يعجز عن التفكير الواعي. فعندما يتصاعد التوتر ويغيب المنطق، يتراجع دور الجزء العقلاني في الدماغ، وننتقل إلى العمل بدافع الغريزة والذاكرة الشعورية. لذا، فإن من تعوّد تخيّل نفسه في دور منقذٍ أو معينٍ، غالبًا ما يتحوّل إلى ذلك فعلًا حين يواجه الخطر.
ولذلك ينجح رجال الطوارئ والعسكريون غالبًا في إدارة المواقف الحرجة، لأنهم تدربوا على تهدئة استجابتهم الأولى للخوف، وعلى التصرّف بهدوء واتزان. وحتى من لا ينتمي إلى هذه الفئات، يكفي أن يكون قد تعلّم في حياته كيف يواجه الخوف ليتمكّن من ضبطه ساعة الحاجة.
بعد النجاة… رحلة إعادة بناء الذات
النجاة من العنف لا تمرّ دون أثر. فمن الطبيعي أن يعاني الإنسان في أعقاب الحوادث المروعة من اضطراب مؤقت — سواء في النوم أو التركيز أو المشاعر. هذه ليست علامات ضعف، بل استجابة بيولوجية بحتة للضغط النفسي، إذ يحاول الدماغ أن يجد مكانًا لهذه التجربة في الذاكرة، وأن يبني “ملفًا جديدًا” لهوية اسمها الناجي.
ومع مرور الوقت، تخفت هذه العواصف النفسية، ويبدأ الإنسان في دمج التجربة ضمن حكاية حياته. ومع أن بعض الناس قد يحتاجون إلى دعمٍ مهني لاستعادة توازنهم، فإن أغلبهم يتعافون تدريجيًا مع الزمن.
من جرحٍ إلى قوّة
الكارثة قد تخلّف ندبة، لكنها لا تُلغي القدرة على النهوض. فكثير من الناجين من أحداث مأساوية يؤكدون أنهم خرجوا منها أكثر قوةً ونضجًا، وهي الحالة التي يسمّيها علماء النفس “النمو بعد الصدمة”. لا أحد يتمنّى أن يعيش المأساة، لكن من ينجو منها يدرك أنه لم يعد كما كان؛ أنه أقوى وأكثر وعيًا بمعنى الحياة.
المصدر: الغارديان
الرابط المختصر هنا ⬇
