العرب في بريطانيا | هل المقاطعة مجدية حقًّا؟

1447 جمادى الثانية 1 | 22 نوفمبر 2025

هل المقاطعة مجدية حقًّا؟

هل المقاطعة مجدية حقًّا؟
عادل يوسف October 23, 2025

“الثمرة ليست شرطًا للعمل، وإن كان العمل شرطًا للثمرة”
– الدكتور أحمد السيد

في كل مرة تُخيم فيها الهُدنة على الأجواء وتثبت أوتادها على الأرض، تطفو على السطح معارك من نوع آخر، كالمهاترات بين الحُذّاق والمتربّصين، وتبريرات المنهزمين، وفرحة الشامتين.

ابتداءً من منافع السابع من أكتوبر، ومرورًا بمآلات الصراع العربي الإسرائيلي، وانتهاءً بما يُعرف مؤخرًا بـ”غزة تحت تأثير القيادة الجديدة”.

ومما ضجّت به وسائل التواصل الاجتماعي هو السؤال القديم المتجدد: “المقاطعة” ما الفائدة منها؟ وهل هي في حكم فرض الكفاية لمن هو خارج دائرة الصراع؟ وهل هناك مقاطعة أصلًا؟

قلت: المتأمل الآخذ بتلابيب مواقع التواصل، وأفواه الرجال في المجالس، يلحظُ أن الناس قد تفرعت في هذه المسألة إلى ثلاثِ شعب:

فريقٌ كبح جِماح مشترياته، يذود عن حياض الأمة من هذا الباب. هتافهم: لا تبرحوا مكانكم يا أصحاب جبل الرماة، إيّاكم أن يؤتى إخوانكم من قِبلِكُم، وشعارهم: “أنا مش مقاطع، أنا مستغني”.

وعلى الضفة الأخرى قوم قد حذفوا المفردة من قاموسهم، ورموا الفريق الأول بالجهل، وعدم قراءة الواقع وفهم نوازله. إذ إن “العلامة التجارية” تذهب لجيب أبناء الوطن، كما أن عدم الشراء يضر بهم، ويردم البيوت المفتوحة، ويزيد العنوسة… إلخ.


يرى الجبناء أن العجز عقل
وتلك خديعة الطبعِ اللئيمِ

قلت: تعرفهم في لحنِ القول، بليّ أعناق النصوص -بعلم أو بجهل- حتى تخدم ذرائعهم، وتغليب المصالح الصُغرى على المفاسد الكُبرى، ما هو إلّا حاجة في نفس الشيطان وأعوانه يقضونها عنهم.

أما الثالث فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا تسمع لهم رِكْزًا ولا ترى لهم موقفًا، وكأن الأمر لا يعنيهم. همّهم الوحيد طعام على الطاولة لأبنائهم وأن يناموا بهدوء في آخر اليوم.

ولا ضير في ذلك البتة، ولكن أين هم من (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد… إلخ)؟

وإن أرخيت سمعك لفلتاتِ ألسنتهم وجدتهم للفريق الثاني أقرب، وإن جادلتهم في الدليل والشاهد، ظفرت بردود مبتذلة من قبيل (أنا أرى، وأنا أحس).


يقولون هذا عندنا غير جائز
فمن أنتم حتى يكون لكم عندُ

قلت: ولِمُريد الحقِ السير على خُطى الأكابر واقتفاء أثرهم في فهم النوازل، إذ كانوا لا يشرعون في مسألةٍ حتى يُحيطوا بقواعدها علمًا، وبفروعها تأصيلًا وفهمًا.

ونحن -أردت بها أنا ومن يشاطرني المقاطعة وليس تفخيمًا لنفسي معاذ الله- على خُطاهم نسير وبهداهم نقتدِي.

فلِدكّ حصون هذه الإشكالات وغيرها، يجب وضع أُسس وقواعد منها نبدأ وإليها ننتهي؛ فإن قيل إن الدين الحنيف هو المعيار والقرآن والسنة قاعدته، فماذا يُريد منّا الشارع في هذا الباب هو المبحث الذي يجب أن تُصب عليه الجهود كافة، وعلى ضوئها يُحتَكم في جدوى المقاطعة من عدمها. أما إهمال المربع الأول والقفز إلى قهوة فُلان ومنتج عِلّان فهو ترف فكري ليس إلّا.


إنما المؤمنون إخوة

إن تتبعت مواضع الآي في الذكر الحكيم، أبصرت جليًّا أن المولى سبحانه في سياق خطابه عن عباده المؤمنين يجمعهم في نفس واحدة: (فإذا دخلتم بيوتًا فسلِّموا على أنفسكم… الآية) (ولا تقتلوا أنفسكم… الآية) وغيرها كما يقول الإمام الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير عن قوله تعالى: (فسلِّموا على أنفسكم) ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته، فظنوا أن الداخل يُسلِّم على نفسه إذا لم يجد أحدًا، وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب.

إضرام نار استشعار المسلم لأخيه في شتى بقاع المعمورة، وأن الناس سواسية قيمتهم فيما تُكنّه صدورهم هو ما جاءت به الشريعة الغرّاء. وإلّا فما الفارق بينه وبين البوذي؟ كلاهما يقضي صلاته في دور عبادته ويوصد الباب على نفسه آخر اليوم.

لا ينقضي عجبي من التقاطةِ المؤرخ الأستاذ محمد إلهامي في إحدى حلقات السيرة النبوية، لمّا استطرد في قوله: إن كفار قريش فهموا الدين الإسلامي أكثر منّا اليوم، وذلك أنه لمّا سمع أحدهم مقالة الرسول أردف: إن حديثك يا أخ العرب مما تكرهه الملوك.

الإسلام هو من أذاب الجليد للوافد الجديد حتى قال عليه الصلاة والسلام (سلمان منّا آل البيت)، وهو الذي حال دون تطبيق السُنة لصلاح الدين الأيوبي لما بلغه حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام تبسم فما لك لا تحذو حَذوه؟ أجاب: وكيف أبتسم والقدس تئنّ تحت وطأة الصليبين؟!

وإني سائل بني قومي: فإن قيل لك إن أُمك قد ساقها العِلجُ إلى سجونهم وهي تذوق أقسى أنواع الذل والإهانات الآن، أكنت مستفتيًا عن جدوى مقاطعة الشوكلاتة من الماركة المعينة؟


ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟

أزعمُ أن أحد أهم أسباب بروز مثل هذه المغالطات هي أن المستشكل لا يُدخل في حيّز تفكيره إلّا ما تم تأطيره مسبقًا من قِبل “سايكس بيكو”، وأن كل ما هو خارج تلك الخطوط غريب، سيّان عنده إن كان من نفس الديانة أو لا.


العمل لا الثمرة

فإن قيل: وما تفعل دراهمي في كبرى شركات العالم التي تُدير ملايين الدولارات؟ قلت: إن المولى برحمته لم يُطالبنا بالنتيجة بل بالعمل (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله… الآية)، وهو ما دبّجتُ به مقالتي “الثمرة ليست شرطًا للعمل” أي أنه ليس شرطًا أن ترى نتيجة عملك في اللحظة الراهنة، إنما واجب الوقت هو فعل ما عليك فعله ولا شيء غيره، فكثير من كِرام الصحابة قضى نحبه ولم يَرَ قصور كسرى تتهاوى بين أيدي المؤمنين.

وما أثنى سبحانه على أصحاب الأخدود مع أنهم قد فنوا عن بكرة أبيهم، إلّا لأنهم قد استفرغوا جهدهم وفعلوا ما يجب عليهم في تلك اللحظة.

ومن مقتضيات العمل “الإعذار” كما كان من أمر أصحاب السبت، لمّا جاءهم النهي عن الصيد انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم ارتكب المحظور، وقسم أخذ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وقسم قالوا للقسم الثاني: (لِمَ تعظون قومًا الله مهلكهم… الآية) على غِرار “دع الخلق للخالق” و”عليك بنفسك”، فردوا عليهم: (معذرةً إلى ربكم) أي حتى نُبرئ ذممنا ونؤدي واجبنا، فكانت النتيجة: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).


“إذا كنت تظن أنك أصغر من أن تفعل شيئًا، فجرب أن تنام وفي غرفتك بعوضة واحدة فقط”

ولا يعزُبُ عنك أن اللقيط فاقدٌ للأهليّة، ليس له مكون حضاري، ولا إرث ثقافي يحفر جذوره في ذاكرة المكان، لا فلكلور ولا مطبخ، الهالة الإعلامية دليل على الخَواء الداخلي، شريان بقائه يستمده من الخارج، فمعرفة من أين تؤكل الكتف جديرٌ بأولي الأبصارِ والنهى.

وهو ما أشار إليه غير مرة المحارب -بكسر الراء وفتحها- رائد الدراسات العربية في العصر الحديث الدكتور عبد الوهاب المسيري في إمكان نقل العقل العربي من دائرة الاستقبال إلى المواجهة، ومن ردة الفعل إلى الضربة الاستباقية.

ولأن توضيح الواضحات من الفاضحات، أكتفي بما ذكرت دفعًا للملل وخشية الإطالة، وحتى لا يُنسي الحديث بعضه بعضًا، على أن أُفيض في مقالة أُخرى بقية القواعد.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

التعليقات

  1. السلام عليكم
    اخي عادل أنا سعيد بما اقراء لك من مقالات
    اتمنى لقلمك الجميل ان يبحر إلى اعماق الجمال
    وان لا يتوقف استمتاعنا به قط
    لك لكل الحب

آخر فيديوهات القناة