سنتان على إبادة غَزَّة: لماذا لن تستسلم المقاومةُ؟

منذ اندلاع حرب الإبادة على غَزَّة قبلَ ما يقاربُ العامينِ، والعالمُ يقفُ مذهولًا أمامَ مشهدٍ لم يعهده من قبل: شعبٌ محاصرٌ، تُقصفُ بيوتُه وتُدكُّ شوارعه وتُستهدفُ مستشفياته، ومع ذلك يخرجُ أبناؤه من تحتِ الرُّكامِ، حفاةً أو بأسلحةٍ متواضعةٍ، ليواجهوا أعتى الجيوشِ وأكثرها تسليحًا، تلك الّتي فاقت جبابرة العالم طغيانًا وتجبّرًا.
ما يجري في غَزَّة ليسَ مجرّد مواجهةٍ عسكريّةٍ، بل هو امتحانٌ للإنسانيّة، ورسالةٌ متجدّدةٌ بأنَّ الإرادةَ المتجذّرةَ في الأرضِ والكرامةِ أقوى من كلِّ ما تنتجهُ مصانعُ السّلاحِ.
مشاهدٌ تتحدّى المنطقَ العسكريَّ
لا شيء يختزلُ هذه الحقيقة أكثرَ من مشاهدَ الشّبانِ الّذين يخرجون حفاةَ الأقدامِ وبأسلحةٍ بدائيّةٍ ليواجهوا دبّاباتٍ وآلياتٍ متطوّرة، ثمّ ينجحون في إرباكِها وتفجيرِها.
هذه ليست لقطاتٍ سينمائيّة، بل يوميّات تعكسُ معادلةً جديدةً: عندما يتحوّلُ الإيمانُ بالحقِّ إلى طاقةٍ لا تنضبُ، تتلاشى الفوارقُ التقنية أمامَه.
سنتان من الفشلِ أمامَ الإبادةِ
بعد نحو عامينِ من محاولاتِ الإبادةِ، أخفق الاحتلالُ في تحقيقِ أيٍّ من أهدافِهِ المعلنةِ. فلم يقضِ على المقاومةِ، ولم يفرضِ الاستسلامَ، بل على العكسِ، كلُّ يومٍ يكشفُ هشاشةَ الرّوايةِ العسكريّةِ والسّياسيّةِ الّتي روّجَ لها.
المقاومةُ لم تُضعفها التّضحياتُ، بل تحوّلت دماءُ الشّهداءِ إلى وقودٍ يزيدُها صلابةً.
في المقابلِ، تتحدّثُ تقاريرُ إسرائيليّةٌ عن ازدياد حالاتِ الانهيارِ النّفسيِّ والانتحارِ بين الجنودِ العائدينَ من غَزَّة.
وهنا يظهرُ الفرقُ بينَ جيشٍ يخشى الموتَ، ومقاتلٍ مستعدٍّ لبذلِ حياتِهِ فداءً لأرضِهِ وكرامتِهِ.
مواجهةٌ وجوديّةٌ
المعركةُ في غَزَّة ليست تبادلًا للنّيرانِ فحسبُ، بل هي صراعٌ بين فلسفتينِ متناقضتينِ: فلسفةٌ تسعى إلى البقاءِ الفرديِّ بأيِّ ثمنٍ، وأخرى ترى أن بقاءَ الشّعبِ وكرامتَه أهمُّ من حياةِ الفردِ.
الاستسلامُ بالنّسبةِ لغَزَّة لا يعني خسارةَ أرضٍ فحسبُ، إنّما نهاية وجودِها ككيانٍ إنسانيٍّ وتاريخيٍّ؛ لذلك فإن قرارَ القتالِ حتّى الاستشهادِ هو ضرورةٌ وجوديّةٌ.
كما قالَ الفيلسوفُ الفرنسيُّ فولتير: “من يقاتل من أجل شيءٍ أعظم من حياتِهِ، لا يُهزم”. هذه العبارةُ تجسّدُ جوهرَ ما يجري اليومَ في غَزَّة.
مقارناتٌ تاريخيّةٌ
عرفَ التّاريخُ مقاوماتٍ عظيمةً، لكن غَزَّة أضافت إليها بعدًا جديدًا؛ فالجزائريّونَ صمدوا أكثرَ من 130 عامًا في وجهِ الاستعمارِ الفرنسيِّ حتّى نالوا استقلالَهم عامَ 1962. والفيتناميّونَ أرهقوا الولاياتِ المتّحدةِ حتّى انسحبت مدحورةً عامَ 1975.
لكنّ خصوصيّةَ غَزَّة أنّها ليست مجرّد حركةٍ مسلّحةٍ، بل هي مجتمعٌ بأسره يتحوّلُ إلى جبهةِ مقاومةٍ حيّةٍ، إذ تتجسّدُ البطولةُ في كلِّ بيتٍ ومخيّمٍ وأنفاقٍ تحتَ الأرضِ.
ولعلَّ كلماتِ الشّهيدِ عبد القادر الحسيني عامَ 1948 تعبّرُ عن هذا المعنى المتجدّد: “إنّني لا أستطيع أن أقاتلَ وأنادي بالاستسلامِ في الوقتِ نفسهِ، فإمّا حياةٌ مشرّفةٌ أو موتٌ كريمٌ”.
أثرٌ عالميٌّ
صمودُ غَزَّة لم يبقَ حبيسَ الميدانِ. فقد فرضَ نفسهُ على الرّأي العامِّ العالميِّ، ودفعَ الملايينَ لإعادةِ النّظرِ في مفاهيم القوّةِ والشّرعيّةِ، وبينما يسعى الاحتلالُ إلى تبريرِ جرائمهِ بخطابِ “الأمنِ”، تقدّمُ غَزَّةُ نفسها للعالمِ بوصفها قضيّة إنسانيّة وأخلاقيّة ملهمة.
غَزَّةُ لم تُنتج مجردَ صراعٍ عسكريٍّ، بل أنتجت حركةً أخلاقيّةً عالميّةً، يتردّدُ صداها في الشّوارعِ والجامعاتِ والمنابرِ، لتقولَ للعالمِ: إنّ هناك شعبًا يقاتلُ من أجلِ كرامتِهِ وحياتِهِ.
المقاومونَ في غَزَّة حقًّا من طراز رفيع عزّ نظيرهُ؛ ليس لأنّ لديهم التّكنولوجيا الأقوى، إنّما لأنّهم يمتلكون ما لم تمتلكه معظمُ الجيوشِ: يقينٌ بالحقِّ، واستعدادٌ للتّضحيةِ لا يفنى.
بينَ جيشٍ يهابُ الموتَ، ومقاتلٍ يرى في الاستشهادِ بابًا إلى الخلودِ، تنتصرُ الإرادةُ على السّلاحِ، والحقّ على الباطل.
ستبقى غَزَّةُ شامخةً صامدةً؛ لأنّ ما تواجههُ هو مشروعُ إبادةٍ ممنهجٍ يسعى لمحو وجودها من الخارطة، لكنّه مهما علا صوته وأطاحَ بالأمل، فهَيهات هَيهاتَ للظّالم أن يرفعَ رايةَ النّصرِ، فالنّصرُ لقضيّتها والخلودُ لأرضها في النّهايةِ، ولا ننسى أنّ غَزَّة قد أثبتت للعالمِ أنّ هناك شعوبًا لا تُمحى، وأنّ نموذجَها الفريدَ في الصّمودِ لم يشهده العالمُ من قبل، ولن يشهده بعدَ ذلكَ.
اقرأ أيضًا:
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇