العرب في بريطانيا | لن تكون كلّ أيّامنا في المهجّر ورديّةً.. الوجه ...

1447 ربيع الثاني 7 | 30 سبتمبر 2025

لن تكون كلّ أيّامنا في المهجّر ورديّةً.. الوجه الخفيّ للغربة

لن تكون كلّ أيّامنا في المهجّر ورديّةً الوجه الخفيّ للغربة
أميرة عليان تبلو September 27, 2025

حين يترك الإنسان أرضه، لا يفعل ذلك إلا مجبراً.

يخرج وفي داخله جذورٌ متشابكة، يحملها معه في حقيبةٍ صغيرةٍ، يظنّ أنّه يستطيع أن يطويها بين الثّياب والذكريات، لكن سرعان ما يكتشف أنّ الوطن لا يُختصر في صورةٍ أو لهجةٍ أو رائحةٍ، إنّه حياةٌ كاملة؛ لذلك فإنّ الهجرة ليست بدايةً ورديّةً كما يتصوّر البعض، فهي امتحانٌ طويلٌ فيه من التّناقضات بقدر ما فيه من الفرص.

المهجّر بين الحلم والحقيقة

في مخيّلة الكثيرين، الهجرة هي بوابّة الخلاص. يراها البعض طريقاً إلى حياةٍ أوسع وأغنى، إلى فرص عملٍ وتعليمٍ وحريّةٍ.

لكنّ الواقع يحمل وجهاً آخر: ليس كلّ صباح في المهجّر مشرقاً، وليس كل مساءٍ آمناً.

أحمد، شابٌّ سوريٌّ سافر إلى أوروبا معتقداً أنّ طريقه سيكون مفروشاً بالفرص، لكنّه فوجئ بسنواتٍ طويلةٍ من الانتظار للحصول على الإقامة، اضطرّ خلالها للعمل في مهنٍ لا تشبه مؤهّلاته الجامعيّة. اكتشف أنّ “البداية الجديدة” ليست سهلةً كما كان يتخيّل.

ثقل الحنين وجرح الذاكرة

الحنين في المهجّر وجعٌ صامتٌ يعيش معنا. نتقنه ونتعايش معه، لكنّه لا يغيب، يطلّ فجأةً عند سماع أغنيةٍ قديمةٍ، أو رائحة طعامٍ كانت تعدّه أمّهاتنا، أو عند رؤية طفلٍ ينادي أباه بلهجة الوطن.

فاطمة، امرأة من غزّة، وهي أمٌّ لثلاثة أطفالٍ في بريطانيا، تقول إنّها تبكي أحياناً حين تحضّر الفطائر الفلسطينيّة لعائلتها، لأنّ رائحتها تعيدها فوراً إلى بيت أمّها في القرية.
لا أحد من حولها يعرف سرّ دموعها، لكنّها تعرف أنّها دموع وطن لا يُعوّض.

بين القبول والرّفض

في المهجّر، نعيش حالةً مزدوجةً: نقبل بالواقع الجديد ونحاول التّكيّف، لكن في أعماقنا يظلّ هناك رفضٌ صامت.
نقبل الوظائف الجديدة لكنّنا نقارنها دوماً بما فقدناه، نقبل الأعياد المختلفة لكنّنا نُعيد إحياء أعيادنا في دوائر ضيّقةٍ.

ليلى، الّتي تعمل ممرضةً في ألمانيا، اعتادت أن تضع على مكتبها في المستشفى صورةً صغيرةً لبيت العائلة في دمشق. تقول: “أعمل هنا وأحترم القوانين وأحبّ النّاس، لكنّ قلبي هناك، في زقاقٍ صغيرٍ لم يغادرني”.

الفرص والتّحدّيات

المهجّر، رغم صعوباته، يمنحنا فرصاً للنموّ. نتعلّم لغاتٍ جديدةً، نطّلع على ثقافاتٍ مختلفةٍ، ونكتسب تجارب لم نكن لنحصل عليها لو بقينا في مكاننا الأوّل.

لكن مع هذه الفرص تأتي تحديّاتٌ قاسيةٌ: الوحدة، التشتّت الأسريّ، الشعور بالهامشية، أو فقدان الإحساس بالأمان.

وهنا ندرك أنّ المهجر ساحة اختبارٍ لإرادتنا وصبرنا.

سامر، شابٌّ فلسطينيٌّ في كندا، تعلّم الإنجليزيّة وأكمل دراسته الجامعيّة، لكنّه ما زال يشعر أنّ اسمه ولهجته يضعانه دائماً في خانة “الآخر”.

يصف الأمر قائلاً: “أستطيع أن أكون ناجحاً هنا، لكنّني لا أشعر يوماً أنّني جزءٌ كاملٌ من هذه الأرض”.

في قلب المهجّر، هناك من يصنع من الألم فرصةً للنموّ والتّغيير.

ليلى، شابّةٌ فلسطينيّةٌ من حيفا تعيش في السّويد، وصلت إلى بلدها الجديد بلا مأوى أو عمل، لكنّها لم تستسلم، فقد بدأت بتعلّم اللّغة السّويديّة، ثمّ التحقت بدوراتٍ تدريبيّةٍ في التّصميم الجرافيكي.

بعد خمس سنوات، افتتحت شركتها الخاصّة لتقديم خدمات التّصميم، وأصبحت توظّف مهاجرين آخرين، وتشاركهم قصّتها لتلهمهم بالصّبر والأمل.
تقول ليلى: “لم يكن الطّريق سهلاً، لكنّي آمنت بأنّ كلّ جرحٍ يمكن أن يولّد أملاً جديداً، وكلّ بدايةٍ صعبةٍ قد تتحوّل إلى إنجازٍ جميلٍ”

المصالحة مع الذات

الطّريق إلى التّوازن يبدأ بالمصالحة مع الذات. أن ندرك أنّ الورديّة الكاملة غير موجودةٍ لا في الوطن ولا في المهجّر.
الحياة في كلّ مكانٍ خليطٌ من نورٍ وظلٍّ، من أملٍ ووجعٍ.

حين نتصالح مع هذه الحقيقة، نصبح أكثر قدرةً على التّكيّف، ونصنع من غربتنا مساحةً للنموّ بدلاً من أن تكون سجناً للشّوق.خالد، لاجئٌ عراقيٌّ في هولندا، اختار أن يحوّل وجعه إلى طاقةٍ إيجابيّةٍ.

افتتح مطعماً صغيراً يقدّم الأطباق العراقيّة التّقليديّة، وصار مكاناً يجتمع فيه أبناء الجالية ليعيدوا شيئاً من دفء الوطن.
يقول: “لم أنسَ العراق، لكنّني قرّرتُ أن أزرع منه هنا قطعةً صغيرةً”.

ما بين الواقع والحنين

لن تكون كلّ أيّامنا في المهجّر ورديّةً. ستظلّ هناك لحظاتٌ قاسيةٌ، وليالٍ يثقلها الشّوق، وأيامٌ يطغى عليها الشّعور بالوحدة، لكنّنا قادرون على جعل غربتنا أقلّ ظلاماً حين نحمل الوطن في قلوبنا، ونزرع من وجعنا حكمةً، ومن حنيننا إصراراً على البقاء أوفياء لذاكرتنا.

المهجّر ليس ورديّاً دائماً نعم، لكنّه أيضاً ليس عتمةً كاملةً، هو حياةٌ أخرى، توازن بين ما تركناه وما نحاول أن نبنيه، بين الماضي الّذي يسكننا، والحاضر الّذي يطالبنا بأن نعيش.

تذكّر، الغربة لن تكون نهاية الحلم، لعلّها تكون صياغة فصلٍ جديدٍ من الحياة، فحافظ على جذورك في داخلك، واجعل ألم الغربة وقوداً لتطوير نفسك، واصنع من كلّ تجربةٍ فرصةً للنموّ، فالحياة في المهجّر، كما في الوطن، تُبنى بالعزيمة والإصرار.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
11:04 am, Sep 30, 2025
temperature icon 16°C
broken clouds
66 %
1026 mb
3 mph
Wind Gust 4 mph
Clouds 57%
Visibility 10 km
Sunrise 6:59 am
Sunset 6:41 pm

آخر فيديوهات القناة