ضبط النَّفس.. قوّة الرُّوح وقدوة الأمهات في فلسطين

حين نتأمّل في مسيرة الإنسان عبر التّاريخ، ندرك أنّ المعارك الكبرى تُخاض أوّلًا في أعماق النّفس، وأنّ القدرة على ضبطها أمام الغضب والوجع، أمام الفقد والخذلان، هي امتحانٌ حقيقيّ للرّوح البشريّة. فمن يملك نفسه عند الشّدائد أعظم شأنًا ممّن يملك جيوشًا وأموالًا، لأنّ قوّة الداخل هي التي تُحرّك قوّة الخارج.
وقد جعل الله فضيلة ضبط النّفس ميزانًا للإنسان في دنياه وآخرته، فقال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، فجعل كظم الغيظ مرتبةً من مراتب التّقوى. وحين نبحث عن النّماذج الحيّة لهذه الفضيلة في عصرنا، لا نحتاج أن نذهب بعيدًا؛ فما علينا إلّا أن نلتفت إلى أرض فلسطين، إلى قلوبٍ نزفت ثمّ تماسكت، وإلى أمّهاتٍ قدّمن للعالم أبلغ دروس الصّبر وضبط النّفس.
أمّهات فلسطين.. جلال الموقف وقوّة الرّوح
في فلسطين، حيث الموت يحاصر الناس من كلّ جهة، وحيث صار الفقد ضيفًا يوميًّا في البيوت، نرى الأمّهات يقدّمن أعظم صورة للصّبر وضبط النّفس.
أمّهاتٌ قدّمن أبناءهنّ شهداء، ووقفن على أبواب البيوت يودّعنهم بزغاريد تختلط بالدّموع. أيُّ قلبٍ هذا الذي يُذبح من الدّاخل، ومع ذلك يخرج منه صوت القوّة؟
كم من أمّ فلسطينيّةٍ وقفت أمام جثمان ابنها، فرفعت يديها إلى السّماء قائلة: الحمد لله الذي شرّفني باستشهاده. إنّها كلمات أشبه بإعلانٍ صريح أنّ ضبط النّفس هنا قمّة الانتصار. فالأمّ التي تستطيع أن تحوّل دموعها إلى زادٍ للصّبر، وأن تكبت انهيارها لتثبّت أبناءها وبناتها، هي أمّ عظيمة حملت على كتفيها مسؤوليّة أمّة بأكملها.
ضبط النّفس فلسفة بقاء
قد يظنّ البعض أنّ ضبط النّفس يعني الخنوع أو كبت المشاعر، لكن الحقيقة أنّه ذروة القوّة. فالإنسان حين يُصاب بالمصيبة فيصرخ ويولول، إنّما يفرّغ ضعفه، أمّا من يحبس ألمه ويضبط نفسه، فهو أقوى من جراحه. وهذا ما أثبتته أمّهات فلسطين؛ إذ تحوّلن إلى مدرسة كاملة في كيفيّة مواجهة القهر بالقوّة الرّوحيّة.
لقد أدركن أنّ الاحتلال لا يريد فقط أن يسلب الأرض، بل أن يهزم الرّوح. فكان ردّهنّ الأعظم: لم يسلّمن أرواحهنّ لليأس، وضبطن أنفسهنّ ليحمين معنى الحياة. وبهذا، قدّمن نموذجًا راقيًا لكلّ شعوب العالم بأنّ الصّبر مقاومة في أسمى صورها.
أمّهات فلسطين.. قدوة للأمّة
إذا كانت الأمم تُقاس بما تقدّمه من نماذج إنسانيّة، فإنّ أمّهات فلسطين يقفن في الصّف الأوّل. لقد أثبتن أنّ الأمّ ليست كائنًا ضعيفًا كما يُصوّرها البعض، بل قوّة تستطيع أن تواجه الاحتلال والجراح معًا. إنّهنّ يربين أبناءهنّ على حبّ الأرض، ويودّعنهم شهداء بابتسامة الصّابرات، ويضبطن أنفسهنّ أمام عيون العالم ليقُلن: نحن أقوى من الموت.
وبهذا نقول: إنّ ضبط النّفس هو سرّ صمود الشّعوب وبقائها، وقد قدّمت أمّهات فلسطين للعالم مثالًا حيًّا على أنّ المرأة قادرة أن تكون حصنًا للأمّة، وأنّ قلب الأمّ يمكن أن يكون صلابةً تكسر قيد الاحتلال. من فلسطين خرج الدّرس: أنّ ضبط النّفس هو القوّة الحقيقيّة، وأنّ الأمّة التي تملك أمّهاتٍ كهؤلاء لا يمكن أن تُهزم.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇