العرب في بريطانيا | نحن الأطباء الفلسطينيون نتعرض للاضطهاد يوميًا ل...

1447 صفر 22 | 17 أغسطس 2025

نحن الأطباء الفلسطينيون نتعرض للاضطهاد يوميًا لكننا باقون لعلاج مرضانا

مقالArtboard-2-copy-3_2 (5)

الطبّ مهنة إنسانية بامتياز، تتأسّس على مبادئ العدل والإحسان، وعلى عهدٍ قَطَعْناه ألّا نُلحِق أذًى، بل نُخفّف الألم، ونُنقذ الأرواح، ونُبلسم الجراح الجسدية والنفسية على جد سواء. أن تكون طبيبًا، يعني أن تمتلك من القوة الداخلية ما يمكّنك من استيعاب معاناة الآخرين، والتفاعل معها برحمة وتعاطف، إلى جانب ما تتطلبه المهنة من علم ومهارة. وأنا أؤمن بأن على الطبيب مسؤولية أخلاقية لا تقلّ عن مسؤوليته المهنية: أن يكون نصيرًا لحق مرضاه في الصحة، ومدافعًا عن العدالة حيثما وُجد الظلم. الطبيب، في نظري، قائد.

تناولتُ هذه الرؤية في فيلم وثائقي أنتجته صحيفة الغارديان بعنوان العَهد (The Oath). أسرد فيه قصتي كطبيبة فلسطينية تعمل في النظام الصحي داخل “إسرائيل”، وما واجهته من صراعات وتحديات، لا سيّما خلال العام الأخير. ولكن، منذ بدء التصوير في مارس 2024، تفاقم الوضع يومًا بعد يوم، ساعة بعد ساعة، وبلغت المجازر في غزة ذروة غير مسبوقة، جعلت من ممارسة المهنة عملاً محفوفًا بالخطر الأخلاقي والسياسي.

كطبيبة فلسطينية تعيش وتعمل في الداخل، وتحديدًا في بيئة تتجذّر فيها النكبة والصراع، تعلمتُ مبكرًا أن المظلومية ليست طارئة، بل ممنهجة. فسياسات الاحتلال والقمع الإسرائيلي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، إلى جانب التمييز الممنهج ضد فلسطينيي الداخل، تنتهك بشكل مباشر حق هذه الشعوب في الصحة. الاحتلال، والطرد، والاستيطان، والعنف، وفرض القيود على الحركة، كلها تُساهم في تجريد المريض من أبسط حقوقه في العلاج والحياة الكريمة. لهذا السبب، التحقت مبكرًا بمنظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل” لأكون جزءًا من هذا النضال.

حين بدأ تصوير الفيلم، كانت خمسة أشهر قد مرّت على العدوان المتواصل على غزة. الآلاف قد قُتلوا، والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس دُمّرت، وأحياءٌ بأكملها مُسحت من الوجود. لم يكن بوسعي أن أتخيّل حينها أن الكارثة ستستمر بهذا الزخم لأكثر من عام ونصف، وأننا سنُواجه يوميًا الموت الجماعي، والتجويع، والتهجير، والانهيار الكامل للبنية الصحية. ما يحدث ليس مجرد أزمة إنسانية، بل إبادة جماعية يتفق عليها كثير من فقهاء القانون الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان.

قصتي الشخصية مرتبطة تمامًا بهذه المأساة. مروان، شقيق زوجة أخي، كان مسعفًا، قُتل في 7 أكتوبر 2023 أثناء تأدية واجبه. ومنذ أسابيع فقط، قُصفت خيام عائلته في غزة، فقُتل عشرة من أفرادها، بينهم عبد الله، طفل في الثامنة، كان يحلم أن يصبح طبيبًا. قُتل وهو نائم. أما الطفل مروان الصغير، ابن السابعة، فقد أصيب بجروح خطيرة في الرأس، وبقي أسبوعًا فاقدًا للوعي، محرومًا من الرعاية المناسبة بسبب نقص الطواقم والإمكانات.

ومنذ ذلك اليوم، قُتل أكثر من 1500 من الكوادر الطبية الفلسطينية. العديد منهم اختُطفوا، وتعرضوا للتعذيب والإذلال، وبعضهم فارق الحياة تحت وطأة الإهمال أو التعذيب في السجون الإسرائيلية. كل هذا يحدث في ظل صمتٍ مريب من المؤسّسة الصحية الإسرائيلية، وصمت زملائنا من الأطباء. أصوات قليلة فقط ارتفعت لتستنكر قتل زملائهم في مستشفيات غزة.

أحاول أن أتحدث بقدرٍ من التوازن، أُوزن كلماتي بقلق بالغ، لأن أي عبارة تُظهر تعاطفًا مع الضحايا قد تُترجم إلى “دعم للإرهاب”، وتُعرض صاحبها للطرد أو العقوبات. منذ السابع من أكتوبر، يتعرض الموظفون الفلسطينيون في النظام الصحي الإسرائيلي لحملات تشويه وشيطنة غير مسبوقة. في بعض المستشفيات، تُقال عبارات مثل: “لا أبرياء في غزة” أو “احرقوا غزة”، ولا يُعاقب أصحابها. أما من يُظهر الحزن على مقتل طفل أو امرأة، يُعامل كمجرم.

أحد زملائنا الأطباء فُصل من عمله لمجرد أنه ألقى كلمة قصيرة انتقد فيها المجازر. القمع يتصاعد.

لقد أصبح الطب، الذي افترضنا يومًا أنه حيادي، مهنة مثقلة بالمعاني السياسية والأخلاقية. أن تُسعف طفلًا جريحًا في غزة، لم يعد مجرّد واجب مهني، بل موقف أخلاقي عظيم. العهد الذي قطعناه بأن نوفر الرعاية للجميع دون تمييز، يتكسّر على أرض الواقع، حيث يُقتل الأطباء والمرضى، وتُسجن الأصوات، وتُدفن الأحلام مثل حلم عبد الله.

ومع ذلك، لن أصمت. لأن الصمت خيانة للقَسَم، وللمرضى، وللإنسانية. طالما بقي لي صوت، سأستخدمه. لأجل العدالة، لأجل من ماتوا بصمت، لأجل الأطباء الذين قضوا، ولأجل كل من لا يزال يواصل الطريق رغم الخوف.

 

المصدر: الغارديان


اقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
11:15 pm, Aug 17, 2025
temperature icon 18°C
overcast clouds
77 %
1022 mb
15 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 100%
Visibility 10 km
Sunrise 5:49 am
Sunset 8:20 pm