العرب في بريطانيا | بين تكميم الأفواه وشطّ الحقيقة

1447 محرم 15 | 11 يوليو 2025

بين تكميم الأفواه وشطّ الحقيقة

مقالArtboard 2 copy (3)

تُكمم الأفواه في هذا الزمن، وتكمن الحقيقة خلف ستائر الخوف والمصالح، ويصبح النطق بالحق مجازفة، ويغدو الصمت حكمة زائفة تُلبَّس لباس الحذر. تُمارس على الشعوب أبشع صور القمع، بالرصاص والتزييف الناعم، والمصطلحات الرخوة، والتجميل الكاذب لوجه القبح. في هذا المشهد المتخم بالمغالطات، يصبح عبور بحر الكذب والتنمق بحثًا عن شطّ الصدق بطولة حقيقية.

لقد تحولت الحقيقة إلى غنيمة نادرة، لا ينالها إلا من قدّم قربانًا من ذاته، وسار في الدرب وحده، متحديًا التيار الجارف الذي يريد للجميع أن يقولوا ما يُقال لهم، ويؤمنوا بما يُلقَّنون، دونما سؤال أو اعتراض. الحقيقة لم تعد مجرد رأي شجاع، بل غدت موقفًا وجوديًا يحدد جوهر الإنسان وكرامته، ويكشف إن كان حيًا بالروح أم مسلوب الإرادة.

في خضم هذا التيه، يصبح الناطق بالحق غريبًا، كأنه جاء من زمن آخر، أو وُلد في المكان الخطأ. تراه يُتّهم بالجنون حينًا، وبالتهور حينًا آخر. ويسهل على من باع ضميره أن يُطلق عليه صفات الخيانة أو الغباء أو النرجسية، لأنهم لا يحتملون أن يرى الناس انعكاس قبحهم في مرآته الصادقة. لكن، رغم ما يُرمى به من تهم، يظل هذا الإنسان وحده من ينتمي إلى جوهر الحياة الحقيقي، لأنه رفض الزيف وواجه العواقب.

الحق لا يحتاج إلى تزويق، ولا إلى بهرجة، ولا إلى صنّاع رأي. الحق كالشمس، يكشف ذاته متى أزاح الناس غيوم المصالح والادّعاء. لكن المشكلة تكمن في وضوحه، وفي استعداد الناس لتقبّله. الحق ثقيل، يهدد امتيازات، ويكشف عورات، ويهدم أصنامًا، ولهذا يُحارَب. لذلك، لا يكفي أن تكون الحقيقة صادقة، بل يجب أن يكون من يحملها أهلًا لها، قادرًا على صونها، والدفاع عنها، ودفع الثمن إن لزم.

نحن نعيش عصرًا صار فيه الكذب “فنًّا”، والتنمق “حكمة”، والمواقف الرمادية “عقلانية”، أما الوضوح والصراحة والتمسك بالمبدأ، فغُلّفت بالتهور والانفعالية. وهذا الانقلاب في القيم يُربك الإنسان الحر، ويضعه في صراع داخلي دائم: هل يتمسك بما يؤمن به، فيُقصى ويُتّهم؟ أم يساير، فيحيا مرتاحًا لكنه فارغ الروح؟

وحدهم الأحرار، أولئك الذين آمنوا أن الصمت خيانة في حضرة الظلم، هم من اختاروا أن يقولوا الحقيقة، لأنها تحفظ إنسانيتهم. أولئك الذين يعرفون أن الموقف قد لا يغير العالم في لحظته، لكنه يغير ضمير صاحبه، ويمهد الطريق لأجيال قادمة قد تسمع صداه.

الحقيقة لا تُقال فقط بالكلمات، بل تُعاش. والحق لا يُكتب في الشعارات، بل يُترجم إلى وقفة، إلى خسارة شريفة، إلى دمعة صامتة، وإلى وجع داخلي لا يهدأ، لكنه يُبقي القلب حيًا. في النهاية، ليس المطلوب من الإنسان أن يُرضي الجميع، بل أن يكون صادقًا مع نفسه، وفي ذلك وحده خلاصه.

 


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

loader-image
london
London, GB
2:30 pm, Jul 11, 2025
temperature icon 30°C
clear sky
38 %
1020 mb
7 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 9%
Visibility 10 km
Sunrise 4:56 am
Sunset 9:15 pm