هل التعليم المنزلي بديل يتفوّق على المدرسة؟ مرونة وتجارب تعليمية غنية في بريطانيا

في وقتٍ تتنامى فيه التساؤلات حول جدوى النظم التعليمية التقليدية، وتتصاعد فيه تطلعات الأهالي نحو تعليم يتماشى مع خصوصيات أبنائهم الثقافية والدينية، برز خيار التعليم المنزلي كمسار بديل يلقى اهتمامًا متزايدًا، لا سيّما في أوساط الجاليات العربية المقيمة في بريطانيا.
وفي هذا السياق، استضافت منصة العرب في بريطانيا الخبيرة التربوية د. أروى الطويل، المتخصصة في علم الاجتماع وصاحبة تجربة طويلة في التعليم المنزلي، حيث قدّمت رؤية متكاملة عن هذا النمط التعليمي، مفنّدة الكثير من المفاهيم المغلوطة المحيطة به، ومسلطةً الضوء على مميزاته الاجتماعية والنفسية، ومرونته في تكييف المحتوى والمناهج بما يتوافق مع احتياجات كل طفل.
من التجربة الشخصية إلى التخصص الأكاديمي
استهلت د. أروى حديثها بتعريف مقتضب عن خلفيتها العلمية ومسيرتها مع التعليم المنزلي، مشيرة إلى أن الدافع الأول لانخراطها في هذا المجال كان نابعًا من تجربتها الشخصية مع ابنها يحيى في تركيا، والذي دفعها للبحث عن بيئة تعليمية أكثر ملاءمة لاحتياجاته. ومع انتقال الأسرة إلى المملكة المتحدة، قررت مواصلة هذا النهج، وراكمت من خلاله خبرة امتدت لسنوات، تُوّجت بتحصيلها الأكاديمي وتفرّغها لتقديم الدعم والاستشارة للأهالي المهتمين بهذا الخيار.
وأوضحت أن التعليم المنزلي في بريطانيا (Home Schooling) يُعد خيارًا قانونيًّا معترفًا به، ويمكّن الوالدين من تولي المسؤولية الكاملة عن تعليم أطفالهم خارج إطار المؤسسات المدرسية الرسمية، مع مرونة كبيرة في اختيار الوسائل والمصادر والأنشطة، بعيدًا عن النمطية التي قد تفرضها المناهج الموحدة.
التعليم المنزلي ليس تعليمًا عن بُعد
لفتت د. أروى إلى ضرورة التمييز بين التعليم المنزلي والتعليم الإلكتروني أو عن بُعد، حيث أن الأول يعتمد على إشراف مباشر من الأسرة، مع إمكانية استخدام أدوات تعليمية إلكترونية أو دروس خاصة كمساندات، وليس كبديل كامل.
وأشارت إلى أن أبرز دوافع الأسر نحو التعليم المنزلي تشمل: الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية، حماية الأطفال من التنمر أو الإقصاء، أو البحث عن نمط تعلم أكثر مرونة يلبي احتياجات الطفل، مؤكدة في الوقت ذاته أن القانون البريطاني لا يفرض منهجًا إلزاميًا أو اختبارات بعينها، بل يكتفي بإشعار المجلس المحلي عند سحب الطفل من المدرسة.
حرية المنهج وتخصيص التعليم بحسب احتياجات الطفل
تُبرز د. أروى الطويل أن التعليم المنزلي يمنح العائلات حرية غير مسبوقة في تصميم التجربة التعليمية، حيث يمكنهم اختيار منهج بعينه أو المزج بين مناهج متعددة من دول مختلفة، بما يتناسب مع أسلوب تعلم الطفل واهتماماته. كما أن عملية التقييم لا تعتمد على اختبارات رسمية، بل تركز غالبًا على التقييم المستمر لتطور الطفل من حيث المهارات والمعرفة والسلوك.
وأضافت أن دعمًا كبيرًا متاح للعائلات التي تختار هذا المسار، يتنوع بين مجموعات دعم محلية على مستوى المدن، ومنصات تعليمية إلكترونية، وأنشطة جماعية، مما يسهم في إثراء التجربة التعليمية ويساعد في سد أي فجوات قد يواجهها الأهل أو الطالب.
البُعد الاجتماعي والنفسي.. ثراء لا عزلة
من أبرز الانتقادات التي يواجهها التعليم المنزلي هي الادعاءات حول “العزلة الاجتماعية” للأطفال، لكن د. أروى تفنّد هذه الفكرة بشدة، مؤكدة أن الطفل في التعليم المنزلي قد يحظى بتجربة اجتماعية أكثر تنوعًا وعمقًا، إذا أُحسن تنظيمها.
وأشارت إلى أن اللقاءات العائلية، الأنشطة المجتمعية، والفعاليات التعليمية التشاركية تُوفر للطفل بيئة آمنة ومتعددة العلاقات، بعيدًا عن ضغوط الصفوف التقليدية والمواقف السلبية كالتمييز أو التنمر. كما أن هذه التجربة قد تُعزز الصحة النفسية للطفل ولأسرته، بفضل المرونة في الجدولة، وغياب الضغط المرتبط بتقييمات الأداء أو البيئة التنافسية.
العودة للمدرسة والنظام الأكاديمي التقليدي
في فقرة مخصصة للأسئلة الشائعة، طمأنت د. أروى العائلات بأن التعليم المنزلي لا يُعد خيارًا نهائيًا بلا رجعة، بل يمكن العودة إلى النظام المدرسي الرسمي بالتنسيق مع المجلس المحلي. أما بالنسبة للشهادات الدراسية، فأوضحت أن الطلاب يستطيعون التقدّم لامتحانات مثل GCSE وA-Levels بشكل خارجي، وهي مؤهلات معترف بها وتفتح أبواب الجامعات البريطانية، رغم أن تكلفتها تقع على عاتق الأسرة وتصل إلى نحو 200 باوند إسترليني لكل امتحان.
التنظيم اليومي للتعليم المنزلي
شرحت د. أروى الطويل أن التعليم المنزلي لا يتطلب التفرغ الكامل من الأهل، بل يمكن التوفيق بينه وبين العمل من خلال تنظيم محكم وجدولة مرنة. وأوضحت أن اليوم الدراسي في المنزل لا يتجاوز غالبًا بضع ساعات، ويُبنى حول أهداف تعليمية محددة مسبقًا من قبل الوالدين.
ويُنصح بأن يضع الأهل خطة سنوية ثم يُقسّموها إلى أهداف شهرية، أسبوعية، وأخيرًا إلى أنشطة يومية، مما يخلق رؤية واضحة ويساعد في تقليل الضغط وتحقيق التوازن بين التعليم والحياة اليومية. وشددت على أهمية توثيق الرحلة التعليمية، سواء من خلال تدوين ملاحظات أو تسجيل إنجازات الطفل، بهدف تقييم التطور وتقديم الدعم المناسب في الوقت المناسب.
القراءة.. بوابة الاكتشاف والتعلّم
ومن التجارب الملهمة التي شاركتها د. أروى، الدور المحوري الذي لعبته القراءة في تجربة ابنها يحيى، حيث شكّلت الكتب نافذة إلى الخيال والتعلّم الذاتي، وساهمت في بناء لغته العربية وتوسيع مفرداته ومعرفته.
وأكدت أن تخصيص وقت يومي للقراءة المشتركة، خاصة القصص والروايات ذات البعد الإنساني أو الخيالي، يساعد الطفل على التعلّم بطريقة طبيعية، ويعزز من قدرته على التعبير والفهم. كما أشارت إلى أن حفظ القرآن الكريم كان أحد الأهداف الأساسية لتجربتها في التعليم المنزلي، إذ شكّل جسرًا لتعلم اللغة العربية والفهم العميق للمعاني، وساعد في ترسيخ القيم وبناء الانضباط الذاتي لدى الطفل.
مصادر موثوقة للتعليم المنزلي في بريطانيا
في نهاية اللقاء، أوصت د. أروى الطويل بعدد من المدارس والمنصات التعليمية الموثوقة التي يمكن أن تكون مرجعية للعائلات الراغبة في خوض تجربة التعليم المنزلي في بريطانيا، منها:
- Cambridge Home School Online: مدرسة خاصة رائدة تقدم التعليم البريطاني من المرحلة الابتدائية حتى A-Levels، بخبرة تتجاوز 20 عامًا.
- Wolsey Hall Oxford: منصة تعليمية دولية مرموقة، تقدم مناهج بريطانية شخصية لأكثر من 130 دولة.
- King’s InterHigh: مدرسة إلكترونية معروفة، تغطي التعليم الثانوي في المملكة المتحدة للطلاب من عمر 11 إلى 16 عامًا.
- Minerva Virtual Academy: أكاديمية حائزة على جوائز، تتيح تعليماً مرنًا ومحورًا حول الطالب للفئة العمرية من 11 إلى 18 عامًا.
- The Online School UK: توفر بيئة تعلم آمنة وتفاعلية، ومناهج مصممة خصيصًا لاحتياجات الطلاب داخل وخارج بريطانيا.
- Success Academies: تقدم برامج تعليم منزلي مرنة وبأسعار مناسبة، تُراعي جودة التعليم البريطاني ومتطلبات الأهل.
التعليم المنزلي كخيار إنساني مرن
اختُتم اللقاء برسالة ملهمة وجّهتها د. أروى الطويل للأهالي، أكدت فيها أن التعليم المنزلي ليس انسحابًا من المنظومة التربوية، بل هو دعوة لإعادة تشكيلها بما يناسب الفرد والأسرة. هو خيار تربوي يمكّن الطفل من أن ينمو وفق إيقاعه الخاص، ويكتشف نفسه في بيئة آمنة وثرية وداعمة.
إنه تعليم يضع الإنسان – وليس النظام – في مركز العملية التعليمية.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇