لا تصرفوا الأنظار.. غزة وفلسطين أولًا
بينما يواصل رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، مساعيه لتحويل أنظار العالم نحو طهران، لا تزال المجازر اليومية والتجويع المنهجي للفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر تمضي على قدم وساق، بلا هوادة ولا توقف.
فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي على إيران قبل أسبوعين، لم تهدأ آلة القتل الجماعي ولا التهجير القسري، بل تسارعت وتيرتها. ومع أن العالم شهد للمرة الأولى سقوط الصواريخ على المدن الإسرائيلية، فإن ما يجري في غزة لم يحتل الصدارة، بل جرى اختزاله في أفضل الأحوال إلى رقم عابر ضمن إحصاءات الموت اليومية، وفي أسوأها أُسدل عليه ستار التجاهل التام.
في ليلة الثلاثاء، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين إيران وإسرائيل، عقب الضربات الإيرانية على قاعدة العديد الأمريكية في قطر. وفي صباح اليوم ذاته، استُشهد 71 فلسطينيًا في قطاع غزة، بعد أن كان قد قُتل 50 شخصًا في اليوم السابق، و200 آخرين خلال اليومين اللذين سبقا ذلك.
هكذا تمضي أول إبادة جماعية تُبثّ على الهواء مباشرة في العصر الحديث، تحت شعار التجريد التام من الإنسانية، وفي ظل حقيقة باتت مقبولة عالميًا: أن موت الفلسطينيين لا يُعدّ حدثًا صادمًا، بل أمرًا متوقّعًا، بل ومطلوبًا أن يتم في صمت، رغم فظاعة المجازر المرتكبة بدعم غربي سافر.
شهداء يتساقطون يومًا بعد يوم
خلال عطلة نهاية الأسبوع، استُشهد الصحفي الفلسطيني أمين حمدان مع زوجته وابنتيه في غارة جوية إسرائيلية. وفي مخيم النصيرات، قضى رجل الدفاع المدني محمد غراب وابنه، بعد أن كان والده قد استُشهد خلال مسيرات العودة عام 2018. وفي حي الشجاعية، قُتل ثلاثة أطفال بينما كانوا يجمعون الحطب.
وفي مستشفى ناصر، حذّر رئيس قسم الأطفال والنساء، الدكتور أحمد الفرا، من قرب وفاة الرُضّع في العناية المركزة خلال 24 إلى 48 ساعة، بسبب نفاد حليب الأطفال المبكر، نتيجة الحصار الإسرائيلي الخانق.
بل وصل التبجّح بأحد أعضاء الكنيست الإسرائيلي حدّ القول: “حتى لو قُتل مئة فلسطيني في ليلة واحدة، فلن يُبالي أحد.”
وعندما نرى الجنود الإسرائيليين يستدرجون الجوعى إلى نقاط توزيع الطعام، ثم يُطلقون عليهم الرصاص والقذائف دون تمييز بين رجل وامرأة وطفل، يتبيّن لنا مدى عجز اللغة عن وصف هذا القدر من الإجرام والوحشية.
لا طعام.. بل مصائد موت
ما يُعرف بـ”مراكز المساعدات” التي تديرها مؤسسة “غزة الإنسانية” المدعومة أمريكيًا، ليست سوى مصائد موت. فمنذ بدأت نشاطها قبل شهر، قُتل أكثر من 450 فلسطينيًا أثناء محاولتهم الحصول على القليل من الطحين أو الطعام.
قبل 7 أكتوبر 2023، كانت تدخل غزة نحو 500 شاحنة يوميًا. أما بعد فرض الحصار الكامل في 2 مارس، فقد توقّف دخول أي مواد غذائية أو مساعدات إنسانية، وأصبحت تلك المؤسسة القناة الوحيدة لإيصال الإغاثة.
لقد اغتالت إسرائيل آلاف الأطفال – نصف سكان القطاع – وسرقت مستقبلهم، وحرمتهم من التعليم، ومن مأوى آمن، ومن دفء العائلة. وأسفرت المجازر عن أكبر جيل من مبتوري الأطراف الأطفال في التاريخ المعاصر. ووفق تقارير الأمم المتحدة، فقد تضاعف عدد الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من سوء التغذية الحاد ثلاث مرات في النصف الثاني من مايو، مقارنة بما كان عليه قبل ثلاثة أشهر فقط.
أجساد الأطفال تذوي، وأرواحهم تُرهَق، فيسيرون نحو مراكز الموت لساعات طويلة، لعلهم يظفرون بكيس دقيق، أو يعودون خالي الوفاض، أو يُقضى عليهم في الطريق.
الطفل محمد الدربي، ابن الثانية عشرة، مشى ثماني ساعات ليحصل على كيلوغرامين من الطحين، ثم سُرق منه، فجلس يبكي بحرقة ويملأ فمه بالرمل قائلاً: “ما في أكل… ما في أكل.”
وفي يومٍ سابق، حُمل جثمان الشاب محمد يوسف الزعانين، ابن العشرين من بيت حانون، على لوح خشبي بين الحشود، وثيابه مغطاة بالدقيق. خرج سعيًا خلف كيس طحين لأمه الجائعة وأخواته السبع، فعاد شهيدًا، بلا ضجيج، بلا ذكر، وكأن حياته لم تكن تستحق التسجيل.
وفي اليوم التالي، استُشهدت إيناس فرحات مع أطفالها السبعة في قصف على حي الزيتون. وفي مايو، قُتل طبيب أطفال مع زوجته وأطفاله التسعة، بعضهم تفحّمت أجسادهم وتحوّلت إلى أشلاء. هذا التطبيع السادي لقتل العائلات كاملة يتكرر بلا توقف.
نتنياهو يهرب إلى الأمام
وسط هذا الجحيم، يسعى نتنياهو لإشعال حرب إقليمية لإنقاذ مستقبله السياسي، وإعادة “صورة الردع” التي تحطّمت بعد عملية 7 أكتوبر. ورغم دعم الأنظمة العربية المتواطئة ودعم الغرب الكامل، فإن استمرار الإبادة الجماعية لا بد أن يخلّف تبعات.
ومن هنا، كانت إيران الفزّاعة المثالية، بذرائع مكرّرة عن قرب امتلاكها سلاحًا نوويًا، تمامًا كما حدث في ملف أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق.
وقد أثارت الضربات الإيرانية على تل أبيب شعورًا واسعًا بالشماتة، بعد أشهر من تأييد شعبي إسرائيلي شامل للعقاب الجماعي بحق مليوني فلسطيني محاصر.
لكن في المقابل، ومنذ 12 يونيو، قتلت إسرائيل أكثر من 610 إيرانيين وأصابت أكثر من 4,700، بينهم علماء وشعراء ورياضيون وأطفال.
أما في غزة، فلا تزال القنابل الأمريكية تنهال على “مناطق آمنة” لا تضم إلا خيامًا منزوعة الأمان، يسكنها مَن فقدوا منازلهم مرارًا خلال عشرين شهرًا من التهجير القسري.
وفي تلك الخيام، يُقتل محمود رصرص وأطفاله نضال وورد. ويُغتال الكوميديان والعامل الخيري محمود شُرّاب داخل خيمته. فبأي منطق يكون “أمن إسرائيل” مرهونًا بحرق الأطفال، وتجويع العائلات، وقصف خيام النازحين؟
غزة تُباد والعالم أخرس
حتى ذريعة “التفاوض على هدنة” غابت عن الإعلام. لا اتصالات، لا وفود، لا حديث عن وساطات. لا أحد يتحدث باسم غزة – لا السلطة الفلسطينية في رام الله، ولا حتى مجتمعها المنهك، الذي بات يرى في الانتفاضات الشعبية ذكرى غابرة.
وكما قال الكاتب والباحث الغزي مقداد جميل:
“تحوّل الناس إلى أشباح. يعيش الجميع في قلق خانق، مذعورين من فكرة أن الإبادة ستستمر إلى ما لا نهاية، دون أن يفكر أحد في كيفية إيقافها.”
هؤلاء المنهكون، المحطمون نفسيًا وجسديًا، يُختزلون في أرقام. أرقام تتناقلها الشاشات، لكن لا يُصغى إلى صرخاتهم، ولا تُروى حكاياتهم.
لقد خذلهم العالم.
وأقلّ ما يمكننا فعله، هو أن نستمر في الحديث، ونرفع أصواتهم، ونكسر جدار الصمت.
يجب أن نضع حدًا لتطبيع ذبح الفلسطينيين، كل يوم، بلا حساب.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇