من داخل الزنازين إلى شمس الحرية: سوريا قصة لم تنتهي..
وكأن الشمس طلعت من بعد ليل حالك لم ينتهِ، في الثامن من ديسمبر من عام 2024 طارت عصافير الحُرية، وبدأت قصة سنحكيها للأجيال القادمة.
في صفحات التاريخ الحديث، لا تزال سوريا تجسد مثالاً مؤلماً لمعاناة الشعوب تحت وطأة الاستبداد والظلم. فمنذ أن بسط نظام الأسد وعائلته قبضته الحديدية على البلاد، باتت سوريا مسرحًا لسلسلة لا تنتهي من الانتهاكات والقمع الممنهج. عقودٌ طويلة عاش فيها السوريون تحت ظل الخوف والترهيب، حيث تحول الوطن إلى سجن كبير، والكلمة الحرة إلى تهمة تقود إلى المعتقلات وأقبية التعذيب.
استُخدم النظام السوري كافة أدواته لترسيخ سلطته، من الأجهزة الأمنية التي زرعت الرعب في القلوب، إلى السياسات الاقتصادية التي أفقرت الشعب وزادت من بؤسه، وصولاً إلى القمع العنيف لكل صوت معارض. ولم تتوقف هذه الممارسات عند حدود الداخل، بل امتدت إلى المحافل الدولية، حيث حاول النظام تزييف الحقائق لتبرير استمراره في السلطة على حساب دماء الأبرياء.
عائلتي كانت واحدة من ملايين العائلات التي اكتوت بنار هذا الظلم. في إحدى الليالي الحالكة، اقتحمت قوات الأمن منزل جدي. كانت العائلة مجتمعة حول أجواء بسيطة من الحياة اليومية، لكن ذلك المشهد تحول فجأة إلى فوضى مرعبة. صراخ الأطفال وبكاء زوجته لم يشفعا له، اقتادوه من بين أحضان عائلته، وكأن وجوده في الحياة جريمة لا تغتفر. تلك اللحظة لم تكن مجرد حادثة اعتقال، بل كانت شرارة لمعاناة ممتدة تركت أثراً لا يُنسى في أرواحنا.
أما عمي، فقد كان ضحية أخرى لهذا النظام الغاشم. ذات يوم، اقتحموا المكان الذي كان فيه، وأمام أعين والدته التي لم تستطع سوى الصراخ والتوسل، أطلقوا عليه الرصاص بدمٍ بارد. كان ذلك المشهد كفيلاً بتحطيم قلب جدتي، التي لم تفقد ابنها فقط، بل فقدت جزءًا من حياتها وقوتها أمام جبروت هذا النظام.
ولا يمكن أن أنسى خالي، الذي اختفى خلف قضبان السجون خمس عشرة سنة. في هذه السنوات الطويلة، كان كل يوم يمضي يحمل له وجعًا جديدًا. التعذيب والإهانة في كل لحظة جعلاه يشعر وكأن الإنسانية اختفت من هذا العالم. في تلك الزنازين المظلمة، لم يكن هناك مكان للكرامة أو الأمل، بل أصوات المعذبين وصرخاتهم التي تعبر عن آلام لا يمكن وصفها.
كما لا يمكن أن أنسى ابن عمي الذي استشهد وهو يقاوم الطغيان في سبيل الحرية. كان أحد أولئك الشجعان الذين آمنوا بأن سوريا الحرة تستحق أن تُدفع ثمنها من الأرواح. سقط وهو يقاتل من أجل مستقبل أفضل، لكن روحه ستظل خالدة في قلب كل سوري يطمح للكرامة.
أما ابن عمي الآخر، فقد أمضى ست سنوات من حياته في سجون النظام، دون أن توجه له أي تهمة، ودون أن يعلم حتى لماذا اعتُقل. مثله مثل الآلاف من الشبان، الذين قضوا سنوات في العتمة والظلام، في ظل القهر والتعذيب، دون أي جرم سوى أنهم حلموا بحياة أفضل. هذا ظلم لا يمكن تصوره، ولكنه كان واقعًا يوميًا للعديد من العائلات السورية.
قصص جدي وعمي وخالي وابن عمي ليست إلا جزءًا صغيرًا من مأساة وطن بأكمله. النظام لم يكتفِ بالبطش بالأفراد، بل سعى إلى تمزيق العائلات، وتحويل الفقد والألم إلى يوميات تعيشها كل أسرة سورية. اعتقال الأب أمام أطفاله، إطلاق النار على الشباب أمام عائلاتهم، وتغييب الآلاف في سجون مظلمة، أصبحت مشاهد متكررة في كل بيت بيننا. لا توجد عائلة في سوريا إلا ولديها فقيد، شهيد، أو معتقل لا يعلمون عنه شيئًا، وهذا ليس محتكراً على الرجال فقط، بل وعلى الأطفال والنساء أيضاً.
هذا القمع لم يكن يهدف فقط إلى إسكات الأصوات المعارضة، بل إلى سحق الروح المعنوية للشعب بأسره. فقد تحولت سوريا إلى وطن لا يعرف فيه الإنسان الأمان، حتى داخل بيته وبين أفراد عائلته.
رغم كل هذا الظلم، ظل الأمل يلوح في الأفق. الشعب السوري الذي عانى من القهر لعقود لم يتوقف عن النضال. كل دمعة ذُرفت، وكل روح صعدت إلى السماء، كانت تدفع نحو لحظة الخلاص.
وفي النهاية، تحقق ما كان يبدو مستحيلاً. سقط بشار الأسد وعائلته بعد سنوات من النضال والصمود. لم يعد هناك مكانٌ للطغيان في سوريا، وفرّ الأسد هاربًا كما يهرب الجبناء دائمًا حين يسقطون أمام إرادة الشعوب.
أصبحت سوريا أخيرًا حرة. عادت الروح إلى هذا الوطن الجريح، وسيعود السوريون ليبنوا بلادهم التي دمرها الاستبداد، أقوى وأكثر إيمانًا بحقهم في الكرامة والحرية. ستظل سوريا دائمًا رمزًا للصمود، ودرسًا للعالم أجمع بأن الطغاة إلى زوال مهما طال الزمن.
جدو محمد شريف، عمي محمود، ابن عمي محمود، خالي هيثم، الله يرحمكم. هادا النصر مشانكم ومشان الملايين غيركم. فرحتكم بالجنة أحلى.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇