هوية بل وطن: دور التربية في مقاومة الاغتراب والتشتت
لم تكن التّربية تلك الكلمات الّتي تُلقى كحبّات رملٍ على سطحٍ صلد، ولا هي شِعارٌ يُرفع أو قانونٌ يُفرض، إنّما هي أكثر من ذلك، هي سرّ الحياة الّذي ينبثق من عمق التّربة الوجدانيّة، هي نسمةُ روحٍ تُسقي نبتة الإنسان الصّغيرة بقطرات الحكمة والصّبر، حتّى تنمو جذورها في الصّخر، وتَحكي قصص نُبلٍ لم يعرفها العالم سوى في صمتها.
بات الإنسانُ في هذا العالم مهجّراً من جذوره، نازحاً عن مهدِه الأوّل..
تضيع بين ثنايا الغربة ألوان التّربية، وتتلاشى روائح الأرض، ويصبح النَّفَس كالغيم التّائه في سماءٍ غريبةٍ لا تنتمي إليه، يُلقي بالحنين في زوايا الذّاكرة، في حين تنفصل ألوان الحقيقة عن ألوان الحياة.
كيف تتغذّى الرّوح، وكيف تنمو الأخلاق في قلب نازحٍ لا يجد سوى الحجر بديلاً للتّراب؟ وكيف تُزرع القيم في قلب طفلٍ يلهث وراء هويّةٍ مشتّتةٍ، تتقاذفها رياح المنفى؟
التّربية في صميمها نهرٌ من حبٍّ، ينبع من القلب نحو القلب، لكنّها حين تُقطَع عنه أصولها، تصبح رياحاً ضائعةً تحمل بذوراً تاهت في صحراء الاغتراب.
وإن لم تُروَ في تربتها، فستكون هباءً يتلاشى، وسيوف الغربة تبتلع الأماني، فتُذبل القلوب قبل الأوراق.
في حضن التّربية تنمو النّفوس بشموخٍ، تكتسب الصّبر، وتغوص في بحور الحكمة، لتصبح كلّ كلمةٍ موجهةً رسالة سلام، وكلّ فعلٍ نافذةً تُطلّ على العدل، لكنّها لا تولد بين جدرانٍ مشقّقةٍ أو بين أرصفةٍ باردةٍ تفتقر إلى دفء الوطن.
التّربية تحتاج أرضاً حيّةً تنبض بالأمل، وسماءً صافيةً تحمل أحلام الطّفولة، وتاريخاً يَرويه الجدّان قبل النّوم.
حين يُسرق الإنسان من وطنه، تُسرق منه كلّ تلك الصّور الّتي رسمتها له التّربية: صورة الجار، وصفاء الصّداقات، وحرمة الكلمة، والوفاء الّذي لا يموت. هنا يصبح الاغتراب حالةً تتعدّى المكان، حالةً تغزو القلب والفكر، فتتبدّل التّربية من نشيدٍ هادئٍ إلى صرخةٍ صامتةٍ تُعانق السّماء بلا إجابة.
لكن، وفي خضم هذا التّيه، هناك من يزرع في رماد الاغتراب بذور الصّبر والكرامة، يربي نفسه وأبنائه على أن يكونوا شموعاً في ظلمة الغربة، ينحتون من الألم قصائد الحياة، ويرسمون من فقدان الوطن لوحة عشقٍ لا تموت.
إنّهم أولئك الّذين أدركوا أن التّربية ليست فعلاً محدوداً بزمنٍ أو مكانٍ، بل هي نبضٌ خالدٌ في الرّوح، أسمى من أن تُقيّد بسلاسل الغربة.
إنّ الأمّة الّتي تُهجّر أبناؤها أمّةٌ مُهدّمةٌ روحيّاً، ومُشتّتةٌ هويّتها، تسير نحو زمنٍ تغيب فيه الجذور، ويصبح الإنسان نازحاً في ذاكرته قبل أن يكون نازحاً في المكان.
أمّا الّتي تُعلي من قيمة التّربية، فهي الّتي تزرع في أبنائها مناعةً ضد الاغتراب، تجعل منهم رجالاً ونساءً لا يبيعون أوطانهم، ولا يستسلمون لليأس، بل يبنون أوطانهم حيثما حلّوا، بأرواحهم الّتي تحرّكها جذورٌ لا تموت.
ولعلّ أعظم حكمةٍ في التّربية هي أن تُعلّم الإنسان كيف يُحبُّ نفسه، كيف يحترم جذوره، وكيف يُدرك أنّ الاغتراب حالة قهرٍ لا يُشفى منها إلّا بإرادةٍ صلبةٍ وتواصلٍ لا ينقطع مع الذّات والوطن، فكم من بيتٍ بُني على التّربية الرّشيدة، قاوم عواصف الزمن، ووقفت له ذاكرة الأجيال شاهدةً، حتّى وإن تاه أبناؤه في مهجر بعيدٍ، ظلّت نبرات الحنان ترتّل في القلوب، وتحفر في الذّاكرة ملامح وطنٍ لا يغيب، وطنٌ ينبض في الأعماق رغم كلّ الغيابات.
التّربية، هي المرسى الّذي يلتقي فيه الإنسان بنفسه، حين يهجر الجغرافيا، لكنّه لا يهاجر الرّوح، وحين يُطرد من الأرض، لكنّه يبقى ملكاً لحكاياته الّتي لا تموت.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة