من حينٍ لآخر، يظهر في المشهد السياسي مصطلح جديد يلقى انتشارًا واسعًا، ويتحوّل بسرعة إلى وسيلة للتأثير في الرأي العام.
ففي عام 2003، تصدّر مصطلح “أسلحة الدمار الشامل” الخطاب السياسي والإعلامي بعدما استخدمه الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير لتبرير غزو العراق، قبل أن يتضح لاحقًا أنه لم تكن هناك أسلحة من هذا النوع أصلًا.
واليوم، يسلّط موقع ميدل إيست آي (Middle East Eye) الضوء على مصطلح جديد يتسلل إلى الخطاب السياسي البريطاني — كلمة “طائفي” (Sectarian) — التي باتت تُستخدم أكثر فأكثر لتشويه صورة السياسيين المسلمين وإضعاف حضورهم الديمقراطي.
من مصطلح تاريخي إلى أداة للتشويه

في الماضي، ارتبطت كلمة “طائفي” في بريطانيا بصراعات أيرلندا الشمالية بين الكاثوليك والبروتستانت. لكن خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية، بدأ سياسيون وصحفيون محافظون في توظيفها بمعنى جديد؛ إذ صارت تُستخدم كرمز ضمني لتصوير السياسيين المسلمين على أنهم منقسمون، خطرون، أو غير منتمين للقيم البريطانية.
ويُعدّ اللورد المحافظ دين غودسون (Lord Godson) أول من أعاد استخدام الكلمة بهذا المعنى في خطابٍ ألقاه في يوليو 2024 أثناء مناقشة بيان العرش، حيث تحدث عن “تصاعد التطرف” و”النداءات الجماعية الصريحة”، زاعمًا أن “عددًا من المرشحين في الانتخابات العامة الأخيرة ركِبوا الموجة الطائفية”.
وسرعان ما تبنّى سياسيون محافظون آخرون هذا الخطاب؛ فهاجم روبرت جينريك ما وصفه بـ”العصابات الطائفية التي تنشر الفوضى والعنف”، بينما أدانت كيمي بادنوك، المنافسة على زعامة الحزب، نوابًا “انتُخبوا على أساس سياسات إسلامية طائفية لا مكان لها في بريطانيا”.
وقد جاءت تصريحاتها موجهة بوضوح إلى النواب المسلمين الأربعة المستقلين الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة.
اتهامات بلا أدلة وحملة منظمة
انضم الكاتب اليميني دوغلاس موراي إلى هذا الخطاب، زاعمًا أن النائب المستقل أيوب خان فاز “بفضل الأصوات الإسلامية الطائفية المهووسة بإسرائيل وغزة”.
لكن تحقيق ميدل إيست آي الميداني أثبت أن هذه المزاعم بلا أساس، وأنها جزء من حملة سياسية وإعلامية تهدف إلى تصوير النواب المسلمين على أنهم “العدو الداخلي” — وهو التعبير الذي استخدمته مارغريت تاتشر سابقًا لوصف عمال المناجم المضربين.
وفي تغطيته للحملات الانتخابية، رافق الموقع المرشح المستقل عدنان حسين في بلدته بلاكبيرن، حيث قال: “ترشحت لأنني أنتمي لهذا المجتمع وأفهم معاناته. غزة مهمة، نعم، لكنها ليست القضية الوحيدة؛ فالفقر والرعاية الصحية من أولوياتنا اليومية.”
وقد فاز حسين في دائرة ظلت معقلًا لحزب العمال منذ عام 1955، رغم أن المسلمين يشكلون فقط نحو ثلث الناخبين فيها، ما يُفنّد تمامًا فكرة الحملة “الطائفية”.
مواقف معتدلة وصورة منفتحة

النواب المسلمون الأربعة أظهروا مواقف متوازنة تناقض الصورة التي يحاول خصومهم ترسيخها:
- عدنان حسين دعا إلى تحقيق علني في قضية “عصابات الاستدراج” وطالب بمعاقبة الجناة بشدة، كما أرسل بطاقته الرسمية لعيد الميلاد بصورة داخل كاتدرائية بلاكبيرن.
- شوكت آدم، نائب ليستر ساوث، ركّز على الوحدة المجتمعية وشارك في فعاليات دينية متنوعة، بما في ذلك الاحتفال بالأعياد اليهودية والمسيحية، ودافع عن الصلوات المسيحية في البرلمان باعتبارها جزءًا من التراث البريطاني.
- أيوب خان ظهر في مناسبات مختلفة داخل الكنائس والمعابد.
- إقبال محمد، نائب ديوزبري وباتلي، شدد على ضرورة أن يركز الحوار بين الأديان على “الإنسانية أولًا، ثم البيئة والمناخ”.
ورغم ذلك، وصفت بعض وسائل الإعلام هؤلاء النواب بأنهم “نواب طائفيون”، بل نشرت مجلة ذا سبيكتاتور صورهم على غلافها تحت عنوان “التحالف الإسلامو-اشتراكي”.
الناخبون المسلمون ليسوا كتلة واحدة

الخطاب السائد يوحي بأن المسلمين يصوتون ككتلة واحدة، لكن انتخابات 2024 أثبتت العكس. فقد شهدت النتائج تراجع الولاء التقليدي لحزب العمال وتنوّع خيارات الناخبين المسلمين بين أحزاب ومرشحين مستقلين.
وأظهرت استطلاعات الرأي أن أولوياتهم الكبرى كانت تكلفة المعيشة والرعاية الصحية ، وهي نفس القضايا التي تهم غالبية البريطانيين.
أما قضية غزة، فرغم أهميتها، لم تكن حكرًا على المسلمين؛ إذ شارك آلاف البريطانيين، بمن فيهم اليهود، في مظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار.
من يدافع عن القيم البريطانية حقًا؟
الحقيقة أن الأحزاب الكبرى هي التي تخلّت عن نبض الشارع بشأن غزة:
- حزب الخضر فاز على أساس برنامج يدعو إلى وقف بيع الأسلحة لإسرائيل.
- كير ستارمر خسر جزءًا كبيرًا من أصواته لصالح المستقل أندرو فاينشتاين، اليهودي من جنوب إفريقيا، بسبب موقفه المناهض لسياسة الحكومة تجاه غزة.
وهكذا، فإن النواب المسلمين المستقلين لا يتحركون بدافع ديني، بل دفاعًا عن القانون الدولي وحقوق الإنسان — أي عن القيم ذاتها التي قامت عليها بريطانيا الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية.
أما المحافظون وحزب الإصلاح، بدعمهم غير المشروط لإسرائيل ورفضهم للمحاكم الدولية، فهم من يقف ضد تلك المبادئ.
الطائفية الحقيقية في مكان آخر

اللافت أن أكثر من يستخدمون كلمة “طائفي” هم أنفسهم من يمارسون التعصب. ففي ألمانيا، يزعم حزب البديل (AfD) أن “الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا”، وفي المجر يتحدث رئيس الوزراء فيكتور أوربان عن “تراجع الثقافة المسيحية” و”التمدّد الإسلامي”، أما في الهند فتستمر سياسات التمييز ضد المسلمين تحت حكومة ناريندرا مودي القومية.
ورغم أن الوضع في بريطانيا لا يصل إلى هذا الحد، فإن الحملة ضد النواب المسلمين تندرج ضمن السياق نفسه من التعصب المبطّن.
خلاصة: سلاح لغوي جديد
بعد أكثر من عقدين على استخدام مصطلح “أسلحة الدمار الشامل” لتبرير غزو العراق، يظهر اليوم مصطلح “طائفي” كسلاح لغوي جديد في حرب ثقافية تستهدف الأقليات المسلمة وتضعف مشاركتهم الديمقراطية. هذا الخطاب لا يضر المسلمين وحدهم، بل يقوّض قيم العدالة والتعددية التي شكّلت جوهر الهوية البريطانية.
إن استخدام كلمة “الطائفية” لتشويه النواب المسلمين يمثل تصعيدًا خطيرًا في الخطاب السياسي والإعلامي، ويُبعد النقاش عن القضايا الحقيقية التي تهم المواطنين، مثل تكلفة المعيشة والرعاية الصحية والمشاركة المجتمعية.
هذه اللغة التحريضية لا تهدد الأفراد فقط، بل تُضعف الثقة بالمؤسسات البرلمانية وتعزز الانقسام داخل المجتمع البريطاني المتنوع. ولذلك، تؤكد المنصة أن مواجهة هذا الخطاب تتطلب تعزيز لغة الحوار والمساءلة، والدفاع عن المشاركة السياسية المتنوعة باعتبارها من الركائز الأساسية للديمقراطية البريطانية.
المصدر: ميدل إيست آي
إقرأ أيضًا:
