من يتستّرون على المجاعة في غزة يكررون سيناريوهات معروفة

المجاعة في غزة من صنع الإنسان. ومن يرتكبون هذه الجريمة يبذلون قصارى جهدهم لإخفائها. الحكومة الإسرائيلية تتّبع نفس الدليل الإجرامي الذي استخدمه مهندسو الكوارث الكبرى على مدى القرن الماضي.
الخطوة الأولى: منع الصحافة
قبل أسبوعين، أحيت أوروبا وأمريكا الذكرى الأربعين لحفل “لايف إيد” الخيري. تحرك بوب غيلدوف آنذاك بعدما عرض مراسلو بي بي سي (BBC)، مايكل بيرك ومحمد أمين، تقريرًا مصورًا عن مجاعة مدمّرة – كانت حتى ذلك الحين مخفية عن العالم. النظام العسكري في إثيوبيا منع دخول الصحفيين لتجنّب الفضيحة، ولأنه كان يستخدم الطعام كسلاح في الحرب.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، لم يُسمح لأي صحفي أجنبي بدخول غزة، إلا من هم ضمن وحدات الجيش الإسرائيلي. أما الصحفيون الفلسطينيون فيواصلون التغطية رغم الأخطار الجسيمة التي يواجهونها. قُتل أكثر من 170 صحفيًا حتى الآن، وتفكر وكالة فرانس برس (AFP) الآن في سحب مراسليها من غزة لأنها لا تريد لهم أن يموتوا جوعًا.
الخطوة الثانية: حظر استخدام كلمة “مجاعة”
عندما وقعت مجاعة البنغال عام 1943، منعت حكومة ونستون تشرشل استخدام كلمتي “مجاعة” أو “جوع” في الصحف – حتى خرق رئيس تحرير صحيفة “ذا ستيتسمان” الحظر من خلال نشر صور صادمة لا تحتاج إلى شرح. لكن ذلك جاء متأخرًا، إذ قُدّر عدد الضحايا بثلاثة ملايين في مجاعة كان يمكن تفاديها.
إسرائيل – وحلفاؤها في واشنطن – يعترضون على استخدام كلمة “مجاعة”. ففي ديسمبر الماضي، أصدرت شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة الأمريكية (FEWS NET) تقريرًا يشير إلى وجود ظروف مجاعة في شمال غزة. ولأول مرة في تاريخها الممتد لأربعين عامًا، اضطرت الشبكة إلى سحب التقرير. وكما حدث في البنغال، جاءت الصور لاحقًا لتكسر جدار الإنكار.
الخطوة الثالثة: إرباك الإحصائيين
تستخدم شبكة FEWS NET وآلية تصنيف الأمن الغذائي المتكامل التابعة للأمم المتحدة (IPC) ثلاثة مؤشرات لقياس حدة الأزمات الغذائية: توفر الغذاء، معدلات سوء التغذية لدى الأطفال، ومعدلات الوفيات. وتنقسم مراحل التصنيف إلى خمس، من الوضع الطبيعي و”المتوتر”، مرورًا بـ”أزمة” و”طوارئ”، وصولًا إلى المرحلة الخامسة: كارثة أو مجاعة.
لتصنيف الوضع كمجاعة، يجب أن تتجاوز جميع المؤشرات الثلاثة حدودًا معينة. لذلك، إذا أرادت حكومة منع إعلان “المجاعة” من قِبل الأمم المتحدة، ما عليها سوى تعطيل جمع البيانات.
رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد فعل ذلك خلال الحرب في إقليم تيغراي عام 2021، حيث فرض حصارًا خانقًا للتجويع. توقّع تقرير صادر عن لجنة مراجعة المجاعة التابعة لـ IPC حدوث مجاعة في غضون ثلاثة أشهر إن استمر الحصار. وقد استمر، ولكن إثيوبيا طردت بعثة IPC. وعندما وُوجهت بالأمر، قالت: لا توجد بيانات تُثبت وجود مجاعة – إذًا لا مجاعة.
أما إسرائيل، فقد جعلت من الصعب جمع البيانات التي تُظهر عمق الجوع الحقيقي. الوجود الأممي على الأرض محدود، وآخر تقرير لـ IPC اعتمد على استطلاعات عبر الهاتف – ولكن الفلسطينيين الأكثر فقرًا لا يملكون هواتف.
يرى العاملون الإنسانيون في IPC المجاعة، لكن بياناتهم لا يمكن أن تُثبتها، لذا يستخدمون كلمات بديلة تعبر عن هول الوضع. فترد إسرائيل: لا توجد مجاعة.
الخطوة الرابعة: مهاجمة مصادر المعلومات
الرقم الأكثر تداولًا للوفيات في غزة هو 61,800، وفق وزارة الصحة. تصف إسرائيل – وآخرون – هذه الجهة بأنها “وزارة الصحة التابعة لحماس”، ما يوحي بأنها غير موثوقة.
سيحدث الشيء نفسه مع أعداد ضحايا الجوع. ستتهم إسرائيل الأمم المتحدة بالتحيّز ومعاداة السامية. ولكن حين نُحصي القبور، من المرجّح أن تكون الأعداد المُعلنة أقل من الحقيقة.
فمقابل كل طفل يُسجل وفاته بسبب “سوء التغذية”، هناك كثيرون آخرون ماتوا جراء أمراض مثل الالتهابات التنفسية أو الإسهال.
الخطوة الخامسة: تشويش السردية
في كل مجاعة حديثة، من يموتون هم الفقراء والأكثر هشاشة. تعتمد آلية IPC على وصول 20% من العائلات إلى نقطة عدم توفر الغذاء تمامًا لتصنيف الوضع ضمن المرحلة الخامسة (كارثة/مجاعة). وهذا يعني أن الآخرين قد يكون لديهم ما يكفي من الطعام.
لهذا كانت الأمم المتحدة تقدم 1.3 مليون وجبة ساخنة يوميًا للفئات الأشد ضعفًا، وتوفر تغذية علاجية متخصصة – حتى فرضت إسرائيل حصارًا تامًا في مارس.
تدعي إسرائيل أن “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) تقدم 2.1 مليون وجبة يوميًا – وجبة لكل فرد في غزة. لكن كم منها يصل إلى أفقر 20%؟ وكم منها يُستهلك من قبل مسلحين – أو من قبل حماس نفسها؟ المؤسسة ليست استجابة إنسانية حقيقية، بل ذريعة لاستمرار الحرمان.
الخطوة السادسة: إلقاء اللوم على طرف آخر
غالبًا ما تكون المجاعات الحديثة في إفريقيا والشرق الأوسط ناتجة عن الحروب. لكن الحكومات تفضّل إلقاء اللوم على الطقس – وغالبًا ما تتواطأ منظمات الإغاثة مع هذه السردية، لأن جمع التبرعات أسهل حين يُعزى الجوع إلى “قضاء وقدر”.
إسرائيل لا يمكنها إلقاء اللوم على الطقس، لكنها تلقي باللوم على حماس – رغم قلة الأدلة على أنها تسرق المساعدات أو تسببت بالمجاعة.
ولو كانت إسرائيل جادة بشأن منع حماس من الاستيلاء على المساعدات، لما كانت تدير نظام GHF – الذي يسهل استغلاله – بينما تمنع الأمم المتحدة من تشغيل مطابخها التي تقدّم الطعام الساخن مباشرة للأطفال.
الخطوة السابعة: تبرير الجريمة
كثير من المدافعين الإسرائيليين لا ينكرون وجود مجاعة – بل يقولون إنها غير مهمة. الحجة أن حماس والفلسطينيين يريدون تدمير إسرائيل، وهذا يُبرر “التجويع الجماعي”.
الحكومة الإسرائيلية تعرف ما تفعل. قد يكون الشعب الإسرائيلي في حالة إنكار، لكن قادته اتخذوا خيارًا أخلاقيًا. يجب أن نُدرك حيَلهم وأساليبهم للتضليل، وأن نواجههم بالحقيقة.
المصدر: الأوبزرفر
إقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇