من عربات الآيس كريم إلى “الكونتي لاينز” و”إنكروتشات”: كيف تطوّرت شبكات المخدرات في بريطانيا من الثمانينيات حتى اليوم

حين يُستدعى في الذاكرة البريطانية تعبير “حروب الآيس كريم”، فالأمر لا يخص الحنين إلى عربات المثلجات الملوّنة بقدر ما يستحضر واحدة من أغرب صفحات الجريمة في غلاسكو خلال الثمانينيات؛ إذ تحولت بعض العربات إلى واجهات لبيع المخدرات والبضائع المسروقة، وانتهى التصعيد بجريمة حريق مروعة عام 1984 أودت بحياة ستة من عائلة دويل بعد رفض السائق الشاب أندرو دويل الخضوع لابتزاز العصابات.
وقد ظلت القضية محور معركة قضائية طويلة انتهت في 2004 بإلغاء إدانات رئيسيتين شغلت الرأي العام لسنوات. هذه الحكاية صارت نموذجًا تاريخيًا استثنائيًا لا قاعدة، لكنها تساعد على فهم كيف تغيّر سوق المخدرات لاحقًا في بريطانيا.
مع دخول التسعينيات، لم يعد الشارع “سوق المخدرات” الأبرز كما كان في الثمانينيات. ظهور أجهزة النداء ثم الانتشار السريع للهواتف المحمولة غيّرا قواعد اللعبة: تحولت الأسواق “المفتوحة” إلى شبكات “مغلقة” يُباع فيها المخدر لمن يعرف رقم إتمام الصفقات “الديل لاين” فقط، وتراجعت نقاط البيع الظاهرة لحساب نمط “اتصل يصلك الطلب”. هذا التحول موثّق في دراسات أكاديمية مبكرة رصدت انتقال التوزيع من المشاهَد إلى الخفي، ثم توسّع “التطبيع” الاجتماعي مع العرض الترفيهي في تسعينيات ثقافة النوادي وازدياد استخدام الهاتف كأساس للطلب والتوصيل.
ومع الألفية الجديدة، تبلور النموذج أكثر في ما بات يُعرف بـ”الكونتي لاينز” (County Lines): خطوط هاتف “جرافْت” مخصصة، تُدار غالبًا من المدن الكبرى إلى البلدات الأصغر والريف، ويجري عبرها استغلال الأطفال والبالغين الضعفاء لنقل المخدرات والأموال، إلى جانب ممارسة العنف و”كوكووينغ” (الاستيلاء على منازل الفئات الضعيفة لاستخدامها كمخازن أو نقاط توزيع). الجهات الرسمية في بريطانيا—من الوكالة الوطنية للجريمة (NCA) إلى الادعاء الملكي والشرطة—توثق هذا النمط وتتعامل معه بوصفه من أكثر أشكال الاستغلال إضرارًا، وتشير بيانات حكومية حديثة إلى آلاف الحالات المُعرَّضة للخطر سنويًا.
ثم جاءت الطفرة الرقمية في العقدين الأخيرين: أسواق سوداء على الإنترنت، وتطبيقات تراسل مشفَّرة، و”هواتف مؤقتة” تُرمى بعد الاستخدام. ذروة هذا المشهد ظهرت في 2020 عندما اخترقت أجهزة إنفاذ القانون شبكة “إنكروتشات” المشفرة في عملية “فينيتيك” الوطنية، ما أسفر عن تفكيك مئات الشبكات ومصادرة أموال وأسلحة وكميات ضخمة من المخدرات، وهي عملية تُستحضر اليوم نموذجًا لقدرة الدولة على مجاراة التحول الرقمي للجريمة.
وبموازاة ذلك، تمدّد البيع عبر المنصات الاجتماعية: دراسات مُحكَّمة توثق استخدام سناب شات وإنستغرام وواتساب في الإعلان والتواصل، بينما سجّل تقرير دولي للاتحاد الأوروبي لرصد المخدرات (EMCDDA) توسع “الأسواق الهجينة” التي تمزج بين الأونلاين والتسليم الميداني.
وفي سياق الجائحة تحديدًا، حذّرت الإنتربول من لجوء عصابات إلى التمويه بزيّ خدمات توصيل الطعام لنقل المواد المحظورة. هذه الأنماط لم تلغِ الطرق التقليدية، لكنها باتت واقعية و”مربحة” بفعل السرعة والقدرة على الوصول والاختفاء.
ومن البدائل التي ازدهرت كذلك الاعتماد على “الطرود السريعة” والبريد: من دلائل ذلك تعليمات “بوردر فورس” بشأن مراكز البريد المستورَد، وإحصاءات حكومية تُظهر ارتفاعًا قياسيًا في عدد ووزن المضبوطات خلال العامين الأخيرين، فضلًا عن ردود معلوماتية من قوات محلية تؤكد ضبط طرود تحوي موادًا مخدرة. ورغم أن هذه الطريقة ليست جديدة بالكامل، فإن المزج بين الطلب عبر الشبكات والإرسال عبر الطرود منحها زخمًا ملحوظًا.
الصورة الراهنة إذن مختلفة جذريًا عن “حروب الآيس كريم” التاريخية: لا وجود اليوم لظاهرة موثَّقة تربط على نطاق واسع بين عربات المثلجات والجريمة المنظمة في بريطانيا؛ فالسوق تحوّل إلى شبكات هاتفية وريفيّة، وأدوات تشفير وتواصل اجتماعي، وطرائق إرسال بريدية، مع استغلال ممنهج لفئات هشّة—وكلها أنماط تعمل عليها السلطات أمنًا وتشريعًا. وحتى في القضايا المتداولة مؤخرًا—كحادثة طعن بائع آيس كريم في ويمبلي شمال غرب لندن—فإن بيانات الشرطة والتغطيات لا تشير إلى صلة بالمخدرات، إذ وجّهت التهم بالقتل وحيازة سلاح أبيض ولا تزال التحقيقات جارية.
خلاصة القول: من عربات تبدو بريئة إلى خطوط هاتف مغلقة وأسواق مشفَّرة وطرود عابرة للحدود، انتقل توزيع المخدرات في بريطانيا عبر ثلاثة عقود من فضاءٍ “مكشوف” إلى منظومات “خفيّة” تعمل على الهاتف والإنترنت والطرود، بينما تتطور استجابات الدولة بالمداهمة والتشريع والرصد. وهذه التحولات تفسّر لماذا بقيت “حروب الآيس كريم” حالة تاريخية محليّة لا مرآةً لواقع اليوم.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇