العرب في بريطانيا | مع صديقي وليام.. البحث عن الأسئلة الوجودية

1447 ربيع الأول 10 | 03 سبتمبر 2025

مع صديقي وليام.. البحث عن الأسئلة الوجودية

مقالArtboard-2-copy-4_2 (4)
عادل يوسف August 31, 2025

إلى عهدٍ ليس ببعيد كانت لي أيام وأوقات طيبة شاركت فيها صديقًا إنجليزيًّا يُدعى وليام، وكان أبيض البشرة، أزرق العينين، مثقفًا ومولعًا بمتابعة الأفلام الوثائقية.

كان يدعوني لمشاركته الطعام وتبادل السمر. لكلٍ منّا دافعه الخاص، أظن أن باعثه كان طرد الملل وقتل الوحدة في المقام الأول، أما أنا فكان همي ممارسة اللغة الإنجليزية مع أهلها.

مع توالي الأيام ارتفعت الكُلفة بيننا قليلًا، فصرنا نخوض في كل جانب ونطرق كل باب، بدءًا من كرة القدم ومن أحق باعتلاء عرش النجومية ميسي أم كرستيانو، مرورًا بسياسة اليمين المتطرف مع المهاجرين، وانتهاءً بنصائح وتوجيهات بشأن كيفية اصطياد الفتيات الجميلات.

وأنا إذ أكتب اليوم فكل شيء بيننا قد انتهى تقريبًا إلّا بقايا من ذكريات جميلة، وتلك الليلة التي أسقطني فيها أرضًا من الجولة الأولى، ليلة أُلجمت فيها ولم أقدر على إيقاف هدير التساؤلات والفلسفات الغربية.

ذات مساء هادئ وبحضرة الشاي الإنجليزي، أخذت أستعرض عضلاتي وباغتّه بسؤال: لماذا أنت نصراني ولست مسلمًا؟ أيهما أفضل باعتقادك؟ لماذا نحن هنا؟ ثم إلى أين المصير بعد الموت؟

ارتطمت عنجهيتي بجدار عالٍ وصلب من فلسفة اللادينيين، الكثير من المراوغة والكثير الكثير من الإنجليزية غير المفهومة بالنسبة لي آنذاك. بسرعة بديهة قلب الطاولة عليَّ، وأصبح هو السائل وأنا المسؤول.

شرّق وغرّب، صال وجال عن الإله، والانفجار العظيم، والديانات… إلخ. بدا الأمر وكأنه ليس مناظرة، بل معلم وتلميذه داخل الفصل، كراهب في أعلى الجبل وسائح يتعلم منه مبادئ اليوغا. وفي الجوار صديق آخر من الجالية الآسيوية نصّب نفسه حكَمًا في حلبة المصارعة، من الجولة الأولى تبيّن له أن الكِفّة غير عادلة، ملاكم متمرس من الوزن الثقيل ضد مبتدئ من وزن الريشة.

أمر الحكم بإيقاف النزال فورًا، ثم ربّت على كتفي قائلًا: يا صديقي أنت لست جاهزًا لمناظرات كهذه!

خارت قواي من جملة الحكم، كلماته كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر التكبر وعدم التعلم المستمر. ظننت -بجهلي- أن درعي قوية، وسيفي صارم في مواجهة الخصوم؛ فأنا المسلم منذ ثلاثة عقود ويزيد، وأنا طالب التحفيظ، وأنا وأنا… إلخ.


إحقاقًا للحق أقول إن الأسئلة لم تكن صعبة بقدر جهلي المطبق بالأمر وقلة زادي باللغة الإنجليزية. أدركت أن كل الأجوبة التي كانت بجعبتي أدلة من القرآن الكريم والحديث الشريف، أدلة لا تناسب مَن هو خارج نطاق الدين الإسلامي، إنسانًا يبحث عن رد منطقي عقلي يستطيع التفكير فيه.

والإسلام -كما لا يخفى على كريم علمك- دين يُخاطب العقل (أفلا يتفكرون) و(أفلا يعقلون)، بل إنه ذمّ الوليد بن المغيرة بعدما رفض الخطاب مع إقراره لما تفكر فيه ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾.

بعد تلك الحادثة طَفِقت أقرأ كتب أهل التخصص في مجال الإلحاد، ولعل من حسناتها أنني قرأت كتابًا من (200) صفحة للمرة الأولى. فوجئتُ أن أهل العلم قد قتلوا هذه الإشكالات بحثًا وأجوبة حتى غدت من المسلَّمات عندهم.

قلت: البطولة هي معرفة الأمور معرفة عقلية من باب “ليطمئن قلبي” حتى يُعبَد الله على بصيرة، ويبني المسلم حول نفسه برجًا محصنًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

حتى في أسئلة الأطفال الإيمانيّة، بربك هل يُشبع فضول طفل في الخامسة من عمره استشهاد من القرآن؟ أم دليل حسّي سهل يناسب فهمه ومَلَكاته العقلية؟

فالكثير من الإشكالات بعد مواجهتها وتفكيكها يُلاحظ أنها ضئيلة تافهة “كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً”، لكن الهروب منها وعدم إعطائها حقها ومستحقها من حلول متينة عقلية، يجعلها ككرة الثلج يصعب إيقافها لاحقًا.

من نافلة القول ألّا يُفهَم من السياق نبذ كل ما لا يتناسب مع العقل البشري المحدود، فعدم العلم ليس علمًا بالعدم، لكنها من باب ما لا يُدرك جُلّه لا يُترك كُلّه.


سؤال: من خلق الله؟

من أكثر الأسئلة التي تغنّى بها المشككون قديمًا وحديثًا هو: إذا كان لكل موجود مُوجِد، ولكل مخلوق خالق، فمن خلق الخالق؟

هكذا في سلسلة لا نهائية تنمّ عن جهل في المربع الأول من الأساس، مربع (متى يكون السؤال سؤالًا؟).

لأن هذا الإشكال في بِنيته الأولية غير منطقي في افتراض أن الخالق هو المخلوق. ثانيًا كما ذكر الدكتور محمد العوضي -بتصرف- أن الله أول، والأول ليس قبله شيء.

يُكمل: هب أننا أقمنا سباقًا بين زيد وعمرو وأحمد… إلخ. وكان الفائز في السباق زيد.

فإذا سألك سائل: من الأول؟ ستجيب بالطبع زيد. فإذا قال: ومن جاء قبل زيد؟ هل ستُجيبه، أم ستذهب به إلى أقرب مصحة نفسية؟

من خلق الخالق ومن جاء قبل زيد وجهان لعملة واحدة.

سؤال: إذا كان الله موجودًا فأين عدله ولماذا لا يقتص للمظلومين؟

أجاب عن هذا الإشكال وفصّل فيه الدكتور نايف بن نهار -حفظه الله- في ورقة بحثية مُحكّمة نشرها في مؤسسة وعي للأبحاث والدراسات، أسوقها كما هي لأنه “لا عطر بعد عروس” كما تقول العرب.

يقول: قبل أن نختلف بشأن مسألة الحكم لا بد أن نتفق على مسألة التصوّر حتى ينشأ الحكم صحيحًا، فما معنى العدالة أولًا؟


العدالة: هي إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، فليس عدلًا أن يُحرَم الشخص من الحق الذي يستحقه، كما أن إعطاء شخص شيئًا لا يستحقه ليس عدلًا كذلك.

فإذا كنتَ مديرًا لمدرسة، وكان لديك موظف يحرص على أداء واجباته على أكمل وجه، فمن غير العدالة ألّا تمنحه حقوقه المادية والمعنوية، ولو كان لديك موظف لا يؤدي واجباته فإنك تكون غير عادل إن أعطيته حقوقه قبل أدائه واجباته.

هذا فيما يتعلق بالعدالة في إطار المخلوق الفاني، أما العدالة المرتبطة بالذات الإلهية فهي تسير على المنطق نفسه، لكن مع ملاحظة أمر مختلف، وهو أنَّه في حالة المخلوق نجد أن إعطاء الحق أو منعه مرتبط (بالحياة الدنيا فقط)، فإذا لم يعطِ الحق أو منعه في الدنيا فهو ظالم. إلا أن الحق فيما يتعلق بالله سبحانه مرحلته المكانية غير مرتبطة بالدنيا فقط، فقد يأخذ المخلوق المستحق حقَّه في الآخرة لا في الدنيا، وقد يأخذهما في المحلّين معًا، ولْننظر -مثلًا- إلى حادثة عائلة آل ياسر رضي الله عنهم حين كانوا يُعذَّبون ظلمًا حتى استشهدوا تحت التعذيب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهم قائلًا: “صبراً آل ياسر، فإنَّ موعدكم الجنّة”.

هنا لنا أن نسأل: هل كان الله تعالى غير عادل مع عائلة آل ياسر؟ ألم يكونوا يستحقون حياةً أفضل لكونهم قد فعلوا مقدمات استحقاق ذلك، وهو الإيمان بالله والصبر على الأذى في سبيله؟

حسنًا، دعنا نعود إلى تعريف العدالة، حيث ذكرنا سابقًا أنَّ العدالة: هي إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، وبناءً على هذا التعريف نقول: إن الحق الذي يستحقه آل ياسر هو الثواب، ولو كان المثيب مخلوقًا لكان واجبًا أن يكون الثواب في الدنيا؛ لأن المخلوق لا يملك إلا في هذه الدنيا، لكن لمّا كان المثيب هو الله تعالى الذي يملك الدنيا والآخرة؛ فإنَّ إعطاء الثواب ليس مرتبطًا مكانيًّا بالدنيا، فقد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائلة آل ياسر أنَّ مكان استحقاقكم الثواب ليس في الدنيا، وإنما في الآخرة (فإنّ موعدكم الجنة). فعدم عدالة المخلوق مرتبط بعدم إعطائه الثواب في الدنيا، أما عدم العدالة في حق الخالق (فهو ألّا يعطيك الثواب لا في الدنيا ولا في الآخرة)، فلو لم يجد آل ياسر ثوابًا في الآخرة لكان هذا عدم عدل من الله تعالى، ونحن نجزم أنه غير حاصل؛ لأنَّه تعالى حرَّم الظلم على نفسه كما حرَّمه على خلقه.

في الجهة المقابلة، هناك أشخاص في الدنيا يتمتعون بكل المحاسن والنعم وهم أشدُّ عبادِ الله ظلمًا وبطشًا، فهل هذا غير عدل كذلك؟

نحتاج هنا أن نعكس المنطق السابق، أي أنه لو كان هناك مواطن يظلم بقية المواطنين فإنَّ الحاكم إذا لم يعاقبه في هذه الدنيا يكون ظالمًا غيرَ عادل، لماذا؟ لأن الحاكم لا يملك إلا الدنيا، فإذا لم يعاقب في الإطار الذي يملكه يكون ظالمًا (أما الله تعالى فيملك الدنيا والآخرة، وهو غير مقيّد بالإطار المكاني الدنيوي، فإذا لم يعاقب الله الظالمين في الدنيا فهو معاقبهم في الآخرة، ولن يغفر الله لأحدٍ من الظالمين إلّا إذا اقتص للمظلومين منه).

إذن الذي يقول إنه لا يرى عدالة الله في الدنيا كأنَّه يعتقد (أن الله لا يملك إلا الدنيا، فإذا لم تتحقق العدالة فيها يكون الله غير عادل)، أما إذا كنا نؤمن بأنّ لله الدنيا والآخرة فالسؤال أصلًا يكون غير منطقي؛ لأنَّ سلطان الله تعالى ليس مرتبطًا بالسقف الدنيوي، فكيف نريد بعد ذلك أن نقيّد أحكامه بالدنيا فقط؟

ثم أما بعد، فإن أصبت القول والنقل فذلك ما كُنّا نبغي، وإلّا فليس من أراد الحق فأخطأه، كمن أراد الباطل فأصابه.

 

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
8:45 am, Sep 3, 2025
temperature icon 18°C
moderate rain
90 %
995 mb
16 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 75%
Visibility 10 km
Sunrise 6:16 am
Sunset 7:43 pm

آخر فيديوهات القناة