مثلث السعادة

من المعلوم المشاهد أن الإنسان من بواكير صباحاته إلى أن يغمض جفنه في آخر اليوم، كل همه أن يسعد في لحظاته ولا يُعكّر صفوها عابث، حتى إنه يسعى جاهدًا في تفادي أخطاء اليوم؛ لكي يُبقي غده صافيًا من الأكدار.
في معرِض بحثي عن تعريفٍ جامع مانع لمفردة السعادة وقفت على عدد لا أحصيه من أخبار المتقدمين والمتأخرين، عربهم وعجمهم، فمنهم من ذكر أن السعادة في إيجاد معنى الحياة، ومنهم من أقسم أنها في الصلاة، وبعضهم أضاف لها الصحبة الصالحة، أما المتطرفون منهم فاختزلوا السعادة في المرأة الحسناء الصالحة.
كلٌّ يدعي وصلًا بليلى
وليلى لا تُقر لهم بذاكَ
نأيتُ بنفسي عن خوض الخائضين، وارتضيتُ لها عبارة أوسع ومعنىً أعمق، راعيت بذلك أهم محور ليس لأحد الحق في انتزاعها منه؛ لأن أخطر سلاح في الوجود هو أن تغدو سعادتك بيد غيرك، لا من داخلك.
بعد شدٍّ وجذب مع معتركات الحياة قلت: إن السعادة لا شك أنها لا تخرج عن ثلاثة أشياء: القلب، والعقل، واليد.
1- القلب
وليس المقصود بالقلب العضلة المسؤولة عن ضخ الدم في الجسم، المتوارية خلف القفص الصدري، بل النقطة التي يبدأ منها أي شيء وينتهي إليها كل شيء. المربع الأول الذي من دونه تصبح الحياة باهتة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، “التقوى ها هنا” وأشار إلى قلبه.
من دون إيمان يفيض في القلب تصبح المصائب أشرس، كمحارب في ساحة المعركة بلا درع تحميه، كل السهام قد تُصيبه، وأصغر الخصوم قد يفتك به.
هي المفارقة التي حاز بسببها الصديق قصب السبق كما ذكر ابن رجب في اللطائف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وَقَر في قلبه.
فأعظم الخلق سعادةً -كما يقول الشيخ فهد الجريوي- هو الذي امتلأ قلبه لكلام الله بالتسليم، ولأوامره بالطاعة، ولنواهيهِ بالتعظيم والامتناع.
الهداية، والعلم، والرزق، وصلاح الذرية… إلخ، منشؤها كلها من صلاح المربع الأول، مربع القلب الذي يتكفل بدوره بصياغة وترتيب كل المربعات من حولك.
2- العقل
والعقل هو المتمم للقلب، والمقصود به العلم؛ فإيمان بلا علم دروشة، وعلم بلا إيمان إلحاد.
وقد أمر سبحانه بالتمسّك بأهم روافد المعرفة (اقرأ)، ومدح السائرين على درب العلم الساعين إلى رفع الجهل عن أنفسهم (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
العلم يرفع بيتًا لا عماد له
والجهل يهدم بيت العز والشرف
والعلم عزيز من شأن من تحلى به أن يرفعه عن مجالسة السفهاء، كما حكى الخطيب البغدادي في ترجمة القاضي أبي يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة، لمّا قصّر في الطلب أيام شبابه، أخذ بيده الإمام قائلًا: إن صبرت معي أكلت الحلوى بالفالوذج. وهو ما كان لمّا عُيّن قاضي القضاة أيام المأمون.
وللعلم لذة لا يدركها إلّا من اغترف غُرفةً منها -ومن ذاق عرف- كما يحكي حاله الإمام الشافعي:
سهري لتنقيح العلوم ألذّ لي
من وصل غانيةٍ وطيب عناقِ
وتمايلي طربًا لحل عويصةٍ، في
الدرس أشهى من مدامة ساقِ
ومن أكثر الأبيات التي أطرب لها في الحث على العلم والتمرد على سفاسف الأمور بيت من قصيدة أبي إسحاق الإلبيري، هو عندي من مواضع السجود في الشعر:
وتُفقَد إن جهلت وأنت باقٍ
وتُوجَد إن علمت وقد فُقدتا
سبحان من طوّع له الكلمات، بلا علم ستُفقَد حتى وأنت حاضر بين الناس، لن يتشوق أحد لرؤيتك ولن تلتفت الأعناق لحضورك، ستكرر الأقوال لا لأنك مؤمن بها، بل لأنه ليس لديك ما تُضيفه، سترفع شعار “إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون”.
أزعم أن القاسم المشترك بين الجاهل والميت هو أن كلَيهما يشغل حيزًا من الفراغ بلا فائدة.
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم
ولا يُستأمرون وهم شهودُ
3- اليد
فإن كان القلب للإيمان والعقل للعلم، بقي ما يُقيم به المرء نفسه، فالسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
وكما هو معلوم فإن ما يُغرق النفس بطوفان من السعادة هو حيازتها مهارة تُوجِد المال من عدم، وحسبُك في شرفها أن تعلم أنه ما من نبي إلّا وكان صاحب صنعة -لعلي أُفيض في هذا الباب بمقالة-، وأن الإنسان بلا مهارة كالواقف على شفا جُرف هار، وإن كان يعول غيره فالوضع أدهى وأمر.
قلت: إيمان وعلم بلا مهارة يفتقر الإنسان ويذل، وإيمان ومهارة بلا علم يضل، وكلاهما بلا إيمان يتيه.
فمثلث السعادة: القلب والعقل واليد، يُقابلها الإيمان والعلم والمهارة، كلها تسير معًا في خطوط متوازية لتحقيق أسمى الغايات في دنيا الأرض.
اقرأ أيضًا:
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇