ما أشبه الليلة بالبارحة… من الخلائف إلى الطوائف
رحم الله الشيخ محمد الغزالي، فقد كان من القلائل الذين قرأوا التاريخ بعين القلب، وربطوا الماضي بالحاضر دون أن يعلقوا في سجن التعلق العاطفي بالماضي ” النوستالجيا ” أو الشعارات الجوفاء.
في إحدى محاضراته المؤثرة، روى الغزالي أن سائحًا زار الأندلس، وهناك التقى بمترجم مثقف، فدار بينهما حديث، قال فيه المترجم:
“كان العرب هنا لما كانوا لله خلائف، ثم طُردوا من هنا لمّا أصبحوا في الأرض طوائف.”
تأمل الغزالي في هذا القول، ونقله بأسى عميق، وكأنه يسمع فيه صوت الزمن وهو يصرخ في وجوهنا اليوم. عبارة بسيطة، لكنها تلخص مأساة أمة بأكملها، ما بين زمن الخلافة التي حملت رسالة حضارية وإنسانية، وزمن الطوائف التي تفرقت على الولاءات الضيقة، وتنازعت على النفوذ والمصالح، فضاعت الأرض وتلاشت الهيبة.
الغزالي لم يكتفِ بنقل العبارة، بل بنى عليها رؤية متكاملة. وقد قال أيضًا في موضع آخر:
“حين غزا الصليبيون بيت المقدس لم تتحرك القاهرة، ولا مكة، ولا العواصم، فقد كان الأمراء مشغولين بأنفسهم.”
وكأنه يصف ما يحدث اليوم، حيث يُباد الشعب الفلسطيني على مرأى العالم، بينما كثير من العواصم العربية إما صامتة، أو منهمكة في صراعاتها الداخلية، أو متواطئة مع المحتل علنًا أو خفاءً.
لقد فهم الغزالي، كما فهم المترجم الأندلسي قبله، أن الهزيمة لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل. تبدأ حين تنكفئ الأمة على ذاتها، وتغرق في هوياتها القَبَلية أو الطائفية، وتنسى أنها وُجدت لتحمل رسالة للعالم: رسالة عدل ورحمة، لا تنازع وتناحر.
واليوم، فيما غزة تُحاصر وتُقصف، وتُغلق المعابر في وجوه من يسعى لنجدتها، نجد أنفسنا أمام سؤال الغزالي القديم المتجدد: ما الذي أسقط الأندلس؟ وما الذي يسقطنا اليوم؟
الجواب واحد: حين تفرّقنا طوائف، بدل أن نكون خلائف.
لكن الغزالي، بطبيعته الإصلاحية، لم يكن رجل يأس، بل أمل وعمل. كان يؤمن أن التغيير ممكن، لكنه يبدأ من الوعي، من التربية، من إعادة بناء الإنسان المؤمن بدوره، لا الخائف من ظله.
لسنا عاجزين. ربما لا نملك قرار الحرب أو السلم، لكننا نملك الكلمة، والموقف، والمقاطعة، والتربية، والعمل العام. نملك أن نعيد بناء مشروع حضاري متكامل، يبدأ من الداخل ويتسع للخارج.
الخيار أمامنا واضح: إما أن نبقى طوائف متنازعة تُستعمل كورقة في صراعات الآخرين، أو نعود خلائف نحمل رسالة الله في أرضه، بالعدل، والتكافل، والحرية، وكرامة الإنسان.
وما أشبه الليلة بالبارحة… إن لم نتّعظ.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
رحم الله الامام الغزالي وانزلة المنزلة التي يستحقها
و الشكر للاخ عدنان حميدان علي استمراره في المجاهدة من اجلنا جميعا وتذكيرنا بما نستطيع فعله. جزاه المولى خير الجزاء. والكلمة الطيبة صدقة ادعو الله ان يكتبها في ميزان حسناته