العرب في بريطانيا | كيف يستوعب الإنسان تجربة المهجّر؟

1447 جمادى الأولى 5 | 27 أكتوبر 2025

كيف يستوعب الإنسان تجربة المهجّر؟

مقالArtboard-2-copy-4_2 (6)
أميرة عليان تبلو September 8, 2025

تجربة المهجّر في جوهرها تجربةٌ وجوديّةٌ كاملةٌ، تهزّ كيان الإنسان في داخله، وتضعه أمام أسئلةٍ كبرى تتعلّق بالهُويّة والانتماء والمعنى. استيعاب المهجّر لا يعني تعلّم لغةٍ جديدةٍ فقط، أو الانخراط في سوق عملٍ مختلفٍ، أو التّعايش مع قوانين غير مألوفةٍ، إنّما يعني قبل كلّ شيءٍ أن يعيد الإنسان ترتيب ذاته من الدّاخل، وأن يصالح ذاكرته مع واقعه، وأن يبني جسرًا بين ما فقده وما يسعى إلى اكتسابه.

أوّلًا: صدمة الرّحيل وبداية المواجهة

الرّحيل عن الوطن يُحدِث في القلب فجوةً عميقةً. قد يكون الإنسان قد خرج مكرهًا بسبب الحرب أو الفقر أو الاضطهاد، أو خرج مختارًا؛ بحثًا عن أفقٍ أوسع وحياةٍ أكثر استقرارًا، لكن في كلتا الحالتين تبقى هناك “صدمة البداية”. هذه الصّدمة تظهر بأشكالٍ مختلفةٍ: حنينٌ شديدٌ إلى تفاصيل صغيرةٍ في الوطن، أو شعورٌ بالعزلة أمام مجتمعٍ جديدٍ، أو خوفٌ من المجهول، أو حتى إحساسٌ بالذّنب تجاه الّذين بقوا خلفنا.

الاستيعاب يبدأ من الاعتراف بهذه الصّدمة وعدم إنكارها. فالإنسان لا يستطيع بناء حياةٍ جديدةٍ على أساسٍ هشٍّ من الإنكار. الاعتراف بالحزن جزءٌ من علاجه، والاعتراف بالصّدمة خطوةٌ أولى نحو تجاوزها.

ثانيًا: الهُويّة بين الجذور والجناحين

في المهجر يكتشف الإنسان أن الهُويّة كائنٌ حيٌّ يتشكّل باستمرارٍ. الهُويّة مثل شجرةٍ لها جذورٌ عميقةٌ في الأرض، لكنّها تحتاج أيضًا إلى جناحين كي تعانق السّماء. قد يشعر المهاجر في البداية أنّه ممزّقٌ بين ثقافتين: ثقافة الوطن الأمّ وثقافة البلد الجديد. لكن الاستيعاب الحقيقي يحدث عندما يدرك أنّ الهُويّة قادرةٌ على التّوسّع، وأنّه ليس مضطرًّا إلى التّخلّي عن جذوره لكي يكتسب أجنحةً جديدةً.

بالعكس، كلّما كان متصالحًا مع ذاته ومتقبلًا لجذوره، كان أكثر قدرة على الانفتاح. المهجر يعلّمنا أنّ الهُويّة فضاءٌ يتّسع بالتّجارب والمعارف واللّغات.

ثالثًا: اللّغة جسر الرّوح والعقل

من أهمّ مفاتيح استيعاب المهجّر هو اللّغة؛ فاللّغة وعاءٌ للفكر ونافذةٌ لفهم العالم. حين يتعلّم المهاجر لغة البلد الجديد، لا يكتسب مجرّد كلماتٍ، إنّما يدخل إلى عمق الثّقافة: طريقة التّفكير، وأسلوب المزاح، ومجريات الحياة اليوميّة، وحتّى طريقة النّظر إلى الزمن والمكان.

لكن في الوقت نفسه، لا ينبغي أن تكون اللّغة الجديدة بديلًا كاملًا عن اللّغة الأمّ. فالحفاظ على اللّغة الأولى يعني الحفاظ على الجذور، ويمنح الإنسان توازنًا داخليًّا بين ما كان وما سيكون.

رابعًا: بين الألم والفرصة

المهجّر يحمل معه ألمًا عميقًا، لكنّه يفتح أيضًا أبوابًا لفرص غير متوقّعةٍ. من يستوعب المهجّر هو من ينجح في تحويل الألم إلى دافعٍ، والحرمان إلى مساحة للنّموّ. كثيرون ممّن فقدوا أوطانهم وجدوا في الغربة فرصًا للتّعلم والعمل والإنجاز لم تكن لتتاح لهم لو بقوا في المكان الأوّل.

السّرّ هنا يكمن في النّظرة: هل ننظر إلى المهجر بوصفه عقوبة فرضت علينا، أم بوصفه تجربة يمكن أن نعيد من خلالها بناء أنفسنا؟ هذا الاختيار الدّاخليّ يحدّد مسار حياةٍ كاملةٍ.

خامسًا: بناء العلاقات والاندماج الاجتماعيّ

لا يمكن للإنسان أن يعيش منعزلًا. في المهجر، يحتاج المرء إلى أن يمدّ جسورًا مع الآخرين. بناء الصّداقات والعلاقات الإنسانيّة يخفّف من وطأة الغربة، ويجعل الاستيعاب أكثر سهولة. المهمّ أن يحافظ على التّوازن: أن ينفتح على المجتمع الجديد دون أن يقطع الحبل السُّرّيّ الّذي يربطه بأهله وثقافته وأصالته.

الاندماج لا يعني الذوبان، وإنّما المشاركة. أن يكون لك أثرٌ في المجتمع الجديد، وأن تساهم فيه بما تملك من قيم وخبرات، هو جزءٌ أساسيٌّ من استيعاب تجربة المهجر.

سادسًا: البعد الرّوحي والدّاخلي

لا يكتمل استيعاب المهجر من دون بُعدٍ روحيٍّ. فالغربة تذكّر الإنسان بضعفه وحاجته إلى ما هو أسمى من المادّة والنّجاح الاجتماعيّ. يجد بعض النّاس السّكينة في الصّلاة أو التّأمّل، ويجد آخرون قوّتهم في الفلسفة أو الفنّ أو الكتابة. المهم أن يكتشف المهاجر طريقة للتّوازن الدّاخلي، حتّى لا ينهار تحت ضغط التّغيرات الخارجيّة.

المهجّر يضعك أمام نفسك: من أنت حين تُجرّد من المكان المألوف؟ ما الّذي يبقى معك حين تفقد كلّ شيءٍ؟ من هنا تصبح الغربة مدرسةً للنّفس، تعلّمها الصّبر والمرونة والاعتماد على الذات.

سابعًا: استيعاب الذاكرة من دون أن تتحوّل إلى قيد

من أصعب ما يواجهه المهاجر هو ثقل الذاكرة. الذكريات قد تتحوّل إلى جدران تعزله عن الحاضر، وقد تصبح مصدر قوّةٍ يمنحه دافعًا للاستمرار. الفارق هو في كيفيّة التّعامل معها.
الاستيعاب يعني أن نحمل ذاكرتنا معنا بوصفها زينة لا حِملًا ثقيلًا. أن نسمح للماضي أن يضيء حاضرنا، لا أن يظلم مستقبلنا.

ثامنًا: صناعة المعنى من التجربة

في النّهاية، استيعاب المهجر هو مسألة معنى. حين يجد المهاجر معنى في غربته، يصبح قادرًا على الاستمرار. قد يكون هذا المعنى في تحقيق حلمٍ شخصيٍّ، أو في خدمة الآخرين، أو في بناء جسرٍ ثقافيٍّ بين وطنه القديم والجديد.
المعنى يحوّل الغربة من مجرّد تجربةٍ قاسيةٍ إلى رحلةٍ إنسانيّةٍ حافلة بالدّروس.

المهجّر بوصفه رحلة نموّ

إن استيعاب المهجر عمليّةٌ طويلةٌ ومعقّدةٌ، لكنّها ممكنةٌ. إنّها تبدأ بالاعتراف بالألم، ثمّ المضي قدمًا نحو التّكيف، والانفتاح، واكتشاف الذات من جديد.

ثمّ إنّ المهجر فرصةٌ لنعيد تعريف أنفسنا، لنكتشف قوّةً لم نكن نعرف أنّنا نملكها، ولنتعلّم أنّ الهُويّة لا تُختزل في حدودٍ جغرافيّةٍ، بل تتّسع بقدر ما نتّسع نحن من الدّاخل.

في نهاية المطاف، استيعاب المهجر هو أن نحمل أوطاننا في قلوبنا لا في جوازات سفرنا فقط، وأن نصنع لأنفسنا بيتًا داخليًّا أينما ذهبنا. فالوطن الحقيقيّ -كما قال أحد الحكماء- هو حيث نجد السّلام مع أنفسنا.


اقرأ أيضًا:

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
6:55 pm, Oct 27, 2025
temperature icon 12°C
broken clouds
68 %
1010 mb
10 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 67%
Visibility 10 km
Sunrise 6:45 am
Sunset 4:43 pm

آخر فيديوهات القناة