العرب في بريطانيا | كان ابني حبًّا ونورًا، أطفأته آلة الموت الإسرائ...

1447 جمادى الأولى 6 | 28 أكتوبر 2025

كان ابني حبًّا ونورًا، أطفأته آلة الموت الإسرائيلية

d4f19cab-5d1c-46c8-8d4e-864f967ba745
أحمد أبو ارتيمه October 28, 2025

في الطابق العلوي من منزل والدي في حي تل السلطان في غزة، وهي منطقة صنّفتها إسرائيل “منطقة آمنة” غرب مدينة رفح، أتذكّر أنني رأيت ابني عبد الله قبل بضعة أشهر فقط من عيد ميلاده الثالث عشر.

في ذلك اليوم من أواخر عام 2023، بعد فترة وجيزة من اندلاع العدوان، كان في المطبخ يُحضّر كوبًا من الشاي، وبيده كيس من البسكويت المملّح الذي اشتراه لتوّه من متجر الحي.

قال لي: «أبي، هل ترغب في مشاركتي؟»

فأجبته: «شكرًا يا حبيبي، أفضل البسكويت الحلو في الصباح».

فقال مبتسمًا: «لكنّ هذا لذيذ، جرّب قطعة منه».

أخذت قطعة وقلت له: «أنت على حق».

قال لي عندها: «أخبرني عندما ترغب بالمزيد، وسأشتري لك من المتجر».

ليل الجوع والحصار

في الليلة السابقة، نام عبد الله جائعًا. فقد انقطعت الأسواق عن الخبز والدقيق بعدما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي حصارًا كاملًا على غزة، مانعًا دخول الطعام والوقود وكافة السلع.

تلك الليلة اجتمعت عائلتنا الكبيرة، التي ضمّت أكثر من خمسة عشر طفلًا، واقتسمنا رغيفين من الخبز بينهم. أعطيت قطعة صغيرة لعبد الله وقلت له أن يشاركها مع أخته بتول.

لكن تلك القطعة لم تسدّ جوعهما، فاستيقظ عبد الله باكرًا في اليوم التالي وذهب إلى المتجر ليشتري أي طعام يجده.

ظلام وصمت

أتذكّر أنني كنت جالسًا في غرفة الجلوس مع أطفالي الثلاثة نشرب الشاي. بعد قليل، قال لي عبد الله إنه ذاهب إلى مدرسة قريبة ليبدّل مكانه مع ابن عمه براء، الذي كان يمكث هناك لشحن هواتف العائلة، إذ كانت من الأماكن القليلة التي يمكن فيها الشحن عبر الألواح الشمسية بعد أن قطعت إسرائيل الكهرباء عن غزة.

أتذكّر اللحظة بدقّة: كان ابني محمد وابنتي بتول جالسين إلى يميني، وعبد الله واقف أمامي مستعدًّا للخروج من المنزل.

ثم فقدت الوعي، وغرق كل شيء في الظلام.

وحين فتحت عيني، لا أعلم إن كانت دقائق أو أكثر، رأيت محمد وبتول يصرخان ويشيران إلى عبد الله الملقى على الأرض.

في تلك اللحظة لم أسمع شيئًا؛ فقد تبيّن لاحقًا أنني فقدت سمعي بفعل الضربة.

رأيت جدران البيت وقد انهارت، وأجسادًا ممدّدة أمامي. في الخارج، كان الناس يتجمعون، فأشرت إليهم أن يأتوا لإنقاذنا من تحت الركام.

حملني أحدهم إلى الخارج عبر الدرج المدمّر، وأشرت بيدي لهم أن يعودوا لإنقاذ الأطفال المصابين.

في نقطة طبية قريبة تلقيت الإسعاف الأولي، ثم نقلتني سيارة الإسعاف إلى مستشفى ناصر في خان يونس.

حاول أخي الذي لم يُصب بأذى أن يطمئنني بأن إصابات الأطفال ليست خطيرة، لكنني ظللت أكرر: «وماذا عن عبد الله؟».

عبد الله كان يظن أن هذا العالم مكان آمن، وأن والده قوي بما يكفي لحمايته. لكن القصف اختطفه من بين ذراعيّ.

الفقد والدهشة

على سرير المستشفى بدأت الصورة تتضح. فقد أصاب منزلنا صاروخ أطلقته طائرة حربية إسرائيلية، وانفجر على بعد أقل من مترين من مكان جلوسنا.

بمعجزة، نجوتُ أنا وأطفالي، لكن زوجة أبي، واثنتان من عمّاتي، وابنة عمي، وجارة لنا قُتلوا على الفور.

لم أكن قادرًا على المشي، وجسدي كان مغطّى بالحروق.

أخبروني أن عبد الله وابنة أخي جود، البالغة من العمر تسع سنوات، في العناية المركزة وحياتهما في خطر.

صباح 26 أكتوبر 2023، قال لي أخي وزوج أختي اللذان كانا معي في المستشفى ما كنت أتهيّب سماعه: «عظّم الله أجرك في ولدك عبد الله، ونسأل الله أن يربط على قلبك بالصبر».

حدّقت في السقف ودعوت الله في قلبي أن يمنحني الصبر والسكينة. وبعد لحظات من الصمت، سألاني إن كنت أريد كرسيًا متحركًا لأراه للمرة الأخيرة. أخبَراني أن جسده كان مغطّى بالحروق، وأن جمجمته متهشّمة.

تردّدت قليلًا ثم قلت: «أريد أن تبقى صورته الجميلة في ذاكرتي. الجسد ليس إلا ثوبًا يفنى، أما الروح فهي الباقية».

طلبت منهم أن يذهبوا إلى جنازته، وبقيت في سريري، أغمضت عيني وغطّيت وجهي. وفي اليوم التالي، رحلت جود أيضًا.

ملاك على الأرض

دخل عبد الله حياتي كنسمة هادئة، ملاك أُرسل إلى الأرض حاملاً رسالة سلامٍ ونقاء، ثم عاد سريعًا إلى موطنه الحقيقي: دار السلام الأبدية.

في اليومين الأخيرين قبل القصف، أخذته معي إلى شقتنا في مدينة حمد. تناولنا الغداء معًا من طبق واحد. أكل قليلًا ثم نهض.

قلت له: «أكمل طعامك يا عبود».

فأجاب: «لقد شبعت يا أبي، هذا الباقي لك».

بعد الغداء، قلت له: «انزل والعب مع أصدقائك».

نزل قليلًا ثم عاد. سألته: «لماذا لم تلعب يا عبود؟»

قال: «لا رغبة لي في اللعب، أريد أن أبقى في المنزل».

في اليوم التالي، سألته صباحًا: «ماذا ترغب في الإفطار يا عبود؟»

قال: «ما تختاره أنت يا أبي يرضيني».

قلت له: «لدينا الجبن والفول والبيض، اختر ما تحب».

فأجاب: «اختر أنت يا أبي، فأنا راضٍ بما تختاره».

قبل القصف بأسبوع، كنت في شقتي بينما كان عبود عند جده في رفح. اتصلت به وأخبرته أن حوالة مالية كنت أنتظرها تأخرت.

فقال لي: «أبي، لقد ادّخرت خمسين شيكلًا في حصّالتي، سأجلبها إليك لتستخدمها».

لم آخذ ماله في النهاية، لكنه لم يتوقف عن الإصرار حتى وعدته بأنني سأطلبها لاحقًا إن احتجت إليها.

كان عبود صاحب روح كريمة، يجد سعادته في العطاء.

كان يشعر بي دون أن أتكلم، ويدافع عني أمام إخوته عندما يكثرون الطلبات، قائلاً لهم: «أبي يمنحنا كل ما نحتاج، فلا تزعجوه».

مفعم بالحياة

رغم صغر سنه، كان عبود عماد حياتي.

قبل الحرب بأسابيع قليلة، فقدت هاتفي في طريقي إلى المنزل. كنت مرهقًا فنمت، وعندما استيقظت بعد ساعتين، قال لي بحماس: «أبي، لديّ مفاجأة!»

أخرج هاتفي من جيبه وقال: «اتصلت برقمك، فأجاب الرجل الذي وجده وأعاده إلى الحي».

كان عبود يحتضن الحياة بحب. كثيرًا ما كان يفاجئني بقدرات تفوق سنّه. ذات مرة كتب نصًا دراميًا لفيلم مدته ست دقائق، وصوّره بمساعدة إخوته ثم حرّره على جهازي.

وفي مرة أخرى، أنتج برنامجًا يحاكي نشرة أخبار فلسطينية، ووزّع الأدوار بين إخوته: أحدهم مراسل، وآخر مصوّر، وعبود كان المذيع.

أخذت أطفالي مرة إلى مزرعة صديق، فاستخدم عبود هاتفي ليوثّق كل التفاصيل الصغيرة، ثم أعدّ مقطع فيديو موسيقيًا عنها. كان ذا حسٍّ فنيٍّ رفيع.

كان مليئًا بالحياة والطاقة. يحب السباحة وكرة القدم، ويدفعه فضوله الدائم إلى الاكتشاف.

جلسنا مرة على الكثبان الرملية، فرأى حشرة غريبة، فقال: «أبي، هل اكتشف العلماء كل أنواع الحشرات؟ ماذا لو لم يكتشفوا هذه بعد؟ أودّ أن أسجّلها باسمي».

أخذ هاتفي، صوّرها، وسجّل اسمه وتاريخ التصوير.

قبل القصف بأسابيع، كنا نتحدث عن الديناصورات، فسألني: «هل هناك حيوانات أخرى انقرضت؟»

قلت له: «نعم، مثل الماموث».

فقال: «أود أن أشاهد فيلمًا وثائقيًا عن الماموث لأتعلّم أكثر».

أرواح أُطفئت

خلال العدوان على غزة، قررت إسرائيل أن عبود، شأنه شأن أكثر من عشرين ألف طفل فلسطيني، لا يستحق الحياة.

أطفأت إسرائيل عشرين ألف روح جميلة كانت تحتضن الحياة ببراءة ومحبة وشغف بالاكتشاف والإبداع.

وإسرائيل لا تستهدف الأطفال الفلسطينيين بالخطأ، بل عن قصد، وفق استراتيجية مدروسة، إذ تراهم “تهديدًا ديموغرافيًا” لا فرصة لبناء الحضارة وإثراء الحياة.

في نظر الأيديولوجيا الاستعمارية الإبادية التي تحكم إسرائيل، فإن قتل الأطفال أمر مبرّر، لا يستدعي اعتذارًا أو حتى شعورًا بالحزن.

في مقابلة تلفزيونية، لم تستطع زعيمة استيطانية إسرائيلية بارزة أن تنطق بكلمة تعاطف واحدة تجاه الأطفال الفلسطينيين القتلى، رغم إصرار المذيع على تكرار سؤاله مرارًا.

أما الطيار الذي قتل عبود وجود، فكيف قضى بقية يومه؟

ربما واصل تنفيذ غارات أخرى، يقتل مزيدًا من الأطفال وعائلاتهم، طمعًا في ترقية أو مكافأة.

وربما بعد انتهاء نوبته، عاد إلى بيته، أو خرج مع صديقته، أو حضر حفلًا في تل أبيب، وربما بدا لطيفًا، يداعب كلبًا أو يمازح طفلًا.

عبود عاش حياة قصيرة في عالم لا يشبهه.

دخلها محمّلًا بالحب والبراءة والإيثار والكرم.

لم يعش طويلًا ليدرك قسوة هذا العالم ووحشيته، ورحل قبل أن يعرف أن الأطفال يمكن أن يُقتلوا بلا سبب.

كان يظن أن العالم مكان آمن، وأن والده قوي بما يكفي ليحميه.

لكن القصف اختطفه من بين ذراعيّ، ولم أستطع حمايته.

أنا واحد من عشرات الآلاف من الآباء والأمهات الذين تحطّمت قلوبهم على فُقدان أطفالهم، وهذا الكسر لا يُرمّم.

أوقد عبود في قلبي شوقًا للعالم الطاهر الذي جاء منه، وأشعل فيّ غضبًا على النظام الاستعماري العنصري الذي يظن أن استقراره وازدهاره يمكن أن يُبنى فوق جماجم الأطفال، ويُسقى بدموع الأمهات والآباء.

المصدر: ميدل إيست آي 


إقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

loader-image
london
London, GB
8:31 am, Oct 28, 2025
temperature icon 12°C
broken clouds
87 %
1006 mb
12 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 75%
Visibility 10 km
Sunrise 6:46 am
Sunset 4:41 pm

آخر فيديوهات القناة