العرب في بريطانيا | في غزة.. أن تقتل بغارة أهون من مشاهدة أطفالك يم...

في غزة.. أن تقتل بغارة أهون من مشاهدة أطفالك يموتون جوعًا

غزة

ها هي غزة تستفيق كل صباح على مشهدٍ يتكرر دون رحمة: جوعٌ يستشري، انهيارٌ يتسارع، ويأسٌ يتمدد كظلٍ ثقيل فوق الأرواح.

أكثر من مليوني إنسان باتوا عالقين في أتون كارثة غير مسبوقة؛ مجاعة حقيقية في قلب حرب لا تهدأ، وحصارٍ خانق، وصمت دوليٍّ مريب لا يُغتفر.

الجوع لم يعد شعورًا يعتري الأجساد، بل تحوّل إلى مشهدٍ يومي؛ أطفال ينهارون في الطرقات، شيوخ يتوسلون لقمة، نساء يبكين بصمتٍ على أبواب أفران مدمّرة أو مراكز توزيع لا توزع.

تجاوز سعر كيلو الطحين 30 دولارًا، والسكر أكثر من 130، بينما معظم الأغذية باتت مفقودة تمامًا أو أشبه بالأسطورة. لا زيت، لا أرز، لا خبز. حتى علبة تونة تُعدّ ترفًا نادر الظهور. وفي الأسواق، ما يظهر أحيانًا ليس سوى زجاجة منظف أو حبة فلفل! مفارقة دامية أمام مشهد المجاعة.

الأحياء “الآمنة” لم تعد سوى مقابر جماعية. شمال رفح، حي القطانة، باتت مصائد موت للناجين الهائمين بحثًا عن الطعام. ووفق تقارير الأمم المتحدة، قُتل أكثر من 1000 فلسطيني منذ مايو أثناء محاولتهم الوصول إلى مساعدات غذائية. العشرات يُقتلون يوميًا بدمٍ بارد.

وقال مارتن غريفيث، مسؤول الإغاثة الأممي السابق، إن هذه المجاعة المتعمدة هي “الجريمة الأشد فظاعة في القرن الحادي والعشرين”.

ومن بين المشاهد التي تنكسر لها القلوب، صورة الرضيع “يحيى النجار”، الذي لم يتجاوز عمره أشهرًا قليلة، وقد مات من الجوع بين يدي والدته. جسدٌ نحيل كعظمٍ مكسوٍّ بغلالة من الجلد الشفاف، مشهد يلخّص عجز العالم وموته الأخلاقي.

الجوع الذي يُذلّ الكرامة

في غزة، لم يعد الجوع شعورًا بل أصبح واقعًا قاتلًا. الأطفال لا يصرخون: “نحن جوعى”، بل: “نريد أن نأكل!”، ولا مجيب. أبناء إخوتي، لا يتعدى عمرهم خمس سنوات، يستفيقون فجرًا راجين أباهم أن يأتيهم برغيف خبز. لكنه لا يستطيع، فالرغيف صار عملة نادرة.

بعض الآباء يهربون من خيامهم، غير قادرين على تحمّل نظرات العجز في عيون أطفالهم. إحدى الأمهات التي رأيتها كانت تبتهل لله أن يرحم أبناءها بالموت، لأنها لم تعد تقدر على إطعامهم. على أبواب الخيام، تجلس نساء دامعات يهمسن: “يا رب… خذهم إليك، لا قدرة لنا على هذا العذاب”.

في الشوارع، لم تعد الأجساد تسير بل تُجرّ. الوجوه خاوية، الأرواح منهكة، والرجال صاروا هياكل عظمية تتمايل في صمت الموت البطيء.

رأيت بعيني شيخًا سبعينيًّا يستعطف شابًا ليشاركه قطعة خبز. هل بلغ بنا الجوع أن نرى كبارنا يتسوّلون اللقمة؟

الزواج بات عبئًا، والإنجاب حلمًا مؤجلًا. كل صباح تسألني زوجتي: “ما لدينا اليوم لنأكله؟” فأردّ، وأنا أكبت مرارة العجز: “أنا صائم اليوم”. نصوم لا تقرّبًا، بل لأن لا خيار آخر أمامنا.

وصفات من العدم

الطعام لم يعد طعامًا، بل وهمًا نخلقه مما تبقى: عدسٌ مع معكرونة، أرز على حطب، شوربة من ماء مغلي. نأكل ثم نجوع مجددًا بعد ساعة، فنلجأ إلى النوم. الجوع ينام معنا ويصحو قبلنا.

فقدت 14 كيلوجرامًا من وزني، وما زلت أحاول الصمود. لكن ماذا عن من لا مال له؟ من لا سند له؟ من لم يعد يملك حتى كلمات العزاء؟

في الأسواق، حيث بقي شيء منها، لا تجد إلا الصمت والفراغ. طفل يقف متأملًا كوب ماء مثلج يباع بنصف دولار، ولا أحد يستطيع دفعه. يمر شخصٌ يأكل، فيلتف حوله عشرة أطفال وربما شيوخ، يتوسلون لقمة. لا جشع، بل بقايا إنسانية تتشبث بالحياة.

في مستشفى ناصر — آخر ما تبقى من ملامح الحياة في الجنوب — لا دواء، لا غذاء، فقط أنين الأمهات، ودموع المرضى، وصدى أرواحٍ تُزهق.

موت نتمناه

في غزة، لم يعد الموت يُخيف. بل صار راحةً تُرتجى. أن يُمزّقك صاروخ أهون من أن ترى أبناءك يتلوّون من الجوع أو زوجتك تتهاوى من الوهن.

ما يحدث هنا ليس كارثة طبيعية، بل مجزرة صامتة، مجاعة مُتعمّدة. الناس يُجَوَّعون عن قصد، بلا ضجيج، بلا ضوء. يُقتَلون أمام شاحنات الطحين، ويُقصفون عند أبواب المستشفيات، والعالم يشاهد من خلف الشاشات.

غزة اليوم مدينة بلا ضوء، بلا أمل. أهلها لا يطلبون معجزات، بل فقط قليلًا من الخبز، قليلًا من الدواء، قليلًا من الكرامة.

العالم يرى ويسمع، ولا يتحرك. كأننا لا نستحق الحياة.

نحن لا نكتب هذا لنستدرّ العطف، بل لنقول الحقيقة كما هي: غزة تُذبح جوعًا، وتُخنق في الظلام، وتُباد تحت أنظار العالم.

تبرع غزة

المصدر: ميدل إيست آي


اقرأ أيضًا:

اترك تعليقا

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

loader-image
london
London, GB
8:48 am, Jul 31, 2025
temperature icon 17°C
moderate rain
90 %
1016 mb
6 mph
Wind Gust 0 mph
Clouds 75%
Visibility 10 km
Sunrise 5:22 am
Sunset 8:50 pm