غزة تعاني رغم الهدنة والفلسطينيون ما زالوا تحت القصف والجوع
لم يوقف وقف إطلاق النار في غزة سياسةَ العقاب الجماعيّ التي تمارسها إسرائيل بحقّ سكان القطاع. فما يزال الفلسطينيون يستشهدون، وما يزال الناس عرضةً للخطر، والخوف، والحرمان المتعمّد، وسط مشهدٍ لا يُتصوّر من المجازر والدمار.
لقد عدتُ إلى منزلي في بريطانيا قبل الإعلان عن وقف إطلاق النار بقليل، لكن ذهني لا يزال في غزة. لا شكّ أن توقف القصف في معظمه يُعدّ راحة مرحّبًا بها، لكن كيف لي أن أحتفل وقد رحل كلّ هذا العدد من الناس؟
وبالنظر إلى أن خبراء قانونيين مستقلين وجدوا أدلّة معقولة على ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية، فإن الحالة القانونية والأخلاقية الطارئة تجعل هذا وقتًا للعمل لا للاحتفال.

لقد دخلتُ غزة ثلاث مرات منذ أكتوبر 2023. وبينما كنت هناك في سبتمبر، أصدرت إسرائيل أمرًا غير قانوني بالتهجير القسري لكل سكان مدينة غزة ، وهي منطقة تعيش في قبضة المجاعة، مطالِبةً نحو مليون شخص بإخلاء منازلهم وملاجئهم.
شاهدتُ زملائي وهم يضطرون إلى حزم ما تبقّى من حياتهم مرة أخرى، ليخسروا آخر خيط من الأمل. كنتُ قد تابعتهم خلال موجات التهجير المتتالية على مدار العامين الماضيين، من الفرح بالعودة إلى منازلهم، إلى محاولة إعادة البناء، ثم الحداد، ثم النجاة من المجاعة، ليُهجّروا من جديد.
لقد بكوا. وبكيتُ أنا أيضًا. وصف كثيرون تلك اللحظة بأنها “النهاية”.
ومع ذلك، وبرغم القصف المتواصل من البر والبحر والجو، وبرغم المجاعة وارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما أدفعه في متجري المحلي، فإن كثيرين لم يفرّوا. بعضهم لم يستطع. والعديد منهم كان مرهقًا إلى حدّ العجز. بينما اختار آخرون البقاء.
“أفضل أن أموت في بيتي”، هكذا قيل لي مرارًا، “حتى لو أصبح الآن خيمة فوق ركام منزلي”.
تواطؤ دولي

خلال تلك الأيام، أصدرت إسرائيل عددًا لا يُحصى من أوامر التهجير القسري “على الفور”، مُدرجة إحداثيات GPS على وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر منشورات تُلقى من السماء. رأيت زميلي منهمكًا في مطابقة الخرائط مع مواقع موظفينا، وأغلبهم لم يكن لديه إنترنت أو بيانات.
كان يتصل بهم واحدًا واحدًا ليبلغهم بضرورة المغادرة فورًا. كان ذلك العمل الأكثر رعبًا الذي شهدته في حياتي.
أما الذين فرّوا جنوبًا، فكانت رحلتهم فوضوية. الأطفال أحرقوا البلاستيك لصناعة وقود بدائي، فملأوا الهواء، ورئاتهم، بسحب كثيفة وسوداء وسامّة.
وفي المخيمات التي لا مرافق صحية فيها، حفرت العائلات حُفرًا داخل الخيم لقضاء حاجتها بما تبقّى لها من كرامة. وفي المنازل التي بقيت فيها السباكة تعمل، وقف الغرباء في طوابير لاستخدام المراحيض.
لا يتحقق أي سلامٍ ذي معنى بمجرد إيقاف إبادة جماعية لم يكن ينبغي السماح بحدوثها أصلاً.

تأتي هذه الأزمة في ظل تواطؤ القوى السياسية، بما في ذلك حكومتي في بريطانيا، التي تواصل عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل في انتهاك لواجباتها بموجب القانون الدولي.
لقد فقد الفلسطينيون في غزة أطفالًا وآباء ومنازل ووظائف ومجتمعات كاملة. إحدى صديقاتي خسرت شقيقتيها واثني عشر طفلًا في ضربة واحدة.
ورغم الوعود بفتح كل معابر غزة لإدخال المساعدات والسلع التجارية على نطاق واسع، ما تزال طلبات أوكسفام للحصول على إمدادات أساسية تُرفض مرارًا. أشياء مثل الأرز، العسل، البسكويت، الصابون، الفوط الصحية، ووحدات التحلية لمياه الشرب، ما تزال عالقةً في المخازن، على بُعد مسافة مؤلمة من الناس الأكثر حاجة إليها.
لقد حدث ارتفاع طفيف في دخول السلع التجارية، واستطاعت أوكسفام وشركاؤنا توسيع برامج القسائم والنقد الرقمي لمساعدة الناس في شراء الأساسيات؛ إلا أن الانخفاض المحدود في الأسعار يجعلها لا تزال بعيدة عن متناول معظم الناس.
منقوشة في الذاكرة

هناك أشياء لن أنساها أبدًا. من بينها أن أوكسفام كان لديها طعامٌ عالق خارج غزة، بينما كانت الأمهات يجلسن مع أطفالهن وهم يموتون من الجوع. لن أحتفل بينما الذين منعوا دخول طعامنا لم يُحاسَبوا على هؤلاء الذين ماتوا نتيجة هذا الحرمان المروّع.
ولن أنسى حديث زميلتي عن ابنها البالغ أربع سنوات؛ وكيف أخبرها أنّه يريد أن يُطلق عليه النار كي يذهب إلى الجنّة، لأن الله هناك سيمنحه موزة. كان يطلب موزة منذ شهور، بينما كان الطعام يُمنع من الدخول.
سأظل أتذكر رؤية زميل يغادر المكتب بعد تلقيه خبر استشهاد ابن أخيه، ثم عودته إلى عمله في اليوم التالي. أو قصة تسنيم، العاملة في الدعم النفسي مع منظمتنا الشريكة “جذور”، والتي استشهدت مع أطفالها الثلاثة في غارة جوية. كانت حاملًا.
كيف أستطيع أنا، أو أي شخص، أن أحتفل بوقف إطلاق نار جاء متأخرًا عامين كاملين، في حرب لم تنجُ فيها أي عائلة من الفقد، وفي وقت فشل فيه ميزان الأخلاق العالمي في الاختبار؟

إن وقف إطلاق النار وحده لا يمكنه معالجة الآثار الممتدّة للمجاعة على طفل، أو حزن عائلة لا تملك حتى جثمان أحبائها لدفنه، أو الصدمة التي ستلازم الناجين لأجيال.
وقف إطلاق نار بلا تمثيلٍ كامل لكل من يجب أن يكون على الطاولة يحدّ من نجاحه بشكل هائل. وقد أثبت التاريخ ذلك. فعندما أنظر إلى الأطراف التي تسعى لإعادة إعمار غزة، أراها جميعًا من الرجال، ولا يبدو أن بينهم فلسطينيًا واحدًا. يجب أن يقود الفلسطينيون، وخاصة النساء، عملية اتخاذ القرار بشأن مستقبلهم ومستقبل أسرهم ومجتمعاتهم.
وقف إطلاق النار دون مساءلة بموجب القانون الدولي يظلّ بالنسبة لي أمرًا أجوف. لا يتحقق أي سلام حقيقي بإيقاف إبادة جماعية لم يكن يجب أن يُسمح بوقوعها أساسًا. وحتى يقترن وقف إطلاق النار هذا بعدالة حقيقية للفلسطينيين، وبمحاسبة الذين جرّدوا الشعب من إنسانيته، فإن الاحتفال سيظلّ خيانةً لكل ما فقدوه.
المصدر: ميدل إيست آي
إقرأ أيضًا:
- انتقادات لبي بي سي بعد حذف تقرير عن معاناة أطفال غزة
- دعوى قضائية في بريطانيا ضد الخارجية بسبب تأخر إجلاء العائلات الفلسطينية من غزة
- بي بي سي: خلافات تعرقل خطة الإعمار.. من يقرر مستقبل غزة؟
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇
