رسالة لكوربين وسلطانة: اليسار البريطاني يحتاجكم معًا ولا مجال للخلافات

ملايين الناخبين في بريطانيا يائسون من أجل تغيير جذري. ومن أجلهم، علينا أن نأمل أن يفسح المتهورون في حزبكم المجال لاستراتيجيين أكثر هدوءًا. لطالما واجه اليسار أربعة أعداء شرسين: أصحاب الثروات، والنخب السياسية، ووسائل الإعلام الكبرى، ونفسه. وخلال الأيام الماضية، عاد العدو الأخير بقوة مدمرة.
حين أعلن النائب المستقل وزعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربين، والنائبة العمالية السابقة زارا سلطانة، عن ولادة حزب يساري جديد، جاءت موجة الاهتمام صادمة حتى لمؤسسيه. فقد سجّل أكثر من 750 ألف شخص دعمهم لحزب غير مُسمى وغير موجود بعد. وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن نحو ثلث البريطانيين قد يصوّتون لتحالف مع حزب الخضر؛ وبين من هم دون الخامسة والثلاثين ارتفعت النسبة إلى 52 في المئة. غير أن وسائل الإعلام قضت وقتًا أطول في السخرية من الاسم المؤقت “حزبكم” بدلًا من محاولة فهم هذه الظاهرة، وهو ما يعكس واقعًا مؤلمًا: ففي بريطانيا اليوم، يعني “القلق المشروع” طرد المهاجرين لا فرض الضرائب على النخب لإعادة بناء الخدمات المتداعية.
لكن لسوء الحظ، بدا أن جدلًا علنيًّا بشعًا في الأيام الأخيرة قد فجّر المشروع بأسره. سلطانة تسعى إلى قيادة مشتركة للحزب الجديد، في حين شعر معسكرها بأنها تُستبعد من قبل مستشاري كوربين وأربعة نواب مستقلين فازوا على أساس برنامج يعارض إبادة إسرائيل ويدعو لمواجهة البؤس الاقتصادي في الداخل. فريق كوربين يرى أنه لا يزال السياسي الأكثر قدرة على تحفيز القواعد الشعبية. أما المستقلون فيعتبرون أنهم بعدما هزموا ماكينة حزب العمال حين كان كير ستارمر يحقق فوزًا كاسحًا، فإنهم يمثلون قاعدة جماهيرية واسعة ينبغي احترامها ومنحها دورًا أساسيًّا.
وخشية التهميش، أطلقت سلطانة بشكل أحادي برنامج العضوية تحت سيطرة حلفائها. وتبعت ذلك تهديدات بإجراءات قانونية من كلا الجانبين، فضلًا عن اتهامات بالتمييز الجنسي من قبل سلطانة. امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات يائسة، معظمها من الناخبين الشباب الذين يدركون إلى أين تتجه بريطانيا، وظنوا أن قارب النجاة قد غرق بنيران صديقة.
لحسن الحظ، يبدو أن لعبة “عض الأصابع” الخاطئة قد انتهت، واستؤنفت خطط إطلاق الحزب الجديد. سلطانة أوقفت الإجراءات القانونية، وأكدت أن “الرهانات كبيرة جدًّا وأن الإخفاق ليس خيارًا”. علينا أن نأمل أن يفسح المتهورون المجال لاستراتيجيين أكثر حكمة. هناك مبادرة شعبية بنّاءة تدعو إلى انتخاب لجنة جديدة تتولى زمام الأمور. ونظرًا لحجم الفرصة والمخاطر، فإن انهيار اليسار سيكون مأساة لا تُغتفر.
لم تكن الظروف يومًا أفضل لظهور قوة إلى يسار حزب العمال. فقد استمال ستارمر الأعضاء ليصبح زعيمًا للحزب بوصفه اشتراكيًّا، ثم انقلب يمينًا وشن هجومًا على جناح العمال اليساري. وبصفته رئيسًا للوزراء، نفّذ كل ما أراده جناح حزبه اليميني: هاجم نظام الرعاية الاجتماعية، وشنّ حملة على المهاجرين، ورفض رفع الضرائب على الأغنياء. فما النتيجة؟ بعد الإطاحة بحكومة المحافظين المكروهة قبل أكثر من عام بقليل، لا يوافق سوى 11 في المئة من الناخبين على أداء الحكومة، فيما يرفضه 72 في المئة.
في الوقت نفسه، تظهر الاستطلاعات باستمرار الدعم الواسع لسياسات يسارية مثل فرض ضرائب أعلى على الأغنياء وتوسيع الملكية العامة. أما حزب الخضر، فقد انتخب زاك بولانسكي البارز، الذي يلقى خطابه الإيكو-اشتراكي صدى واسع النطاق. تحالف بين حزب يساري جديد والخضر قد يحل محل حزب العمال المنهار.
ومع ذلك، لا تلغي هذه التطورات الصعوبات القائمة. فأي ائتلاف يساري قابل للحياة يجب أن يعترف بالمسلمين البريطانيين بوصفه جزءًا أساسيًّا من قاعدته. فقد سيّستهم مذابح الغرب في أراضٍ ذات أغلبية مسلمة مثل العراق وأفغانستان وليبيا وفلسطين؛ كما سيّستهم المعاناة الاقتصادية التي تصيب مجتمعاتهم بطريقة غير متناسبة، إلى جانب الإسلاموفوبيا المتأصلة والمتغلغلة في التيار العام. شبكاتهم المجتمعية القوية -وهي نادرة في بريطانيا المفككة- تشكل قاعدة صلبة لحملات ميدانية قوية.
لكن بعض التوترات لا يمكن تجاهلها، مثل التوتر بين القيم المحافظة اجتماعيًّا والتوجهات التقدمية بشأن قضايا مثل حقوق المتحولين جنسيًّا. ومع ذلك، فإن أبرز السياسيين المسلمين البريطانيين -عمدة لندن العمالي صادق خان، ورئيس وزراء اسكتلندا السابق حمزة يوسف- كانوا من أبرز الداعمين لحقوق مجتمع الميم، على عكس معظم نواب المحافظين المسيحيين. وقد كان المسلمون يصوّتون لحزب العمال حين أقر تشريعات حقوق المثليين. في ذلك الوقت، كثير من الناخبين -مسلمين وغير مسلمين- لم يؤيدوا مساواة سن الرضا أو إلغاء المادة الـ28، لكنهم رأوا أن لهم أولويات أخرى. أي تحالف يساري يجب أن يواجه الإسلاموفوبيا بشراسة، ويعارض قتل المسلمين في الخارج، ويدافع عن حقوق جميع الأقليات. فذلك ليس أخلاقيًّا فقط، بل هو استراتيجي أيضًا. وإلا فإن الناخبين الشباب سينسحبون، وسينهار الائتلاف الانتخابي.
الإخفاق الآن سيكون أنانية إجرامية. فعدم الأمان الاقتصادي يحدد حياة الملايين. والفاشية تعود بقوة عبر الغرب. والاستبداد يزداد قسوة في الداخل: شاهدوا الاعتقالات الجماعية للناشطين السلميين المناهضين للإبادة تحت قوانين مكافحة الإرهاب العمالية. كما أن تبنّي ستارمر لخطاب معادٍ للمهاجرين -ورفضه معالجة الجذور الاقتصادية لليأس- لا يفيد إلا في إضفاء الشرعية على دعوات نايجل فاراج وحزبه. يسار موحد برسالة قوية يمكن أن يحوّل النقاش السياسي بعيدًا عن استهداف المهاجرين نحو مواجهة النخب الثرية المسؤولة فعليًّا عن تراجع بريطانيا. وهذا سيضع ستارمر وفاراج معًا في موقع دفاعي.
لم يبرز أي سياسي يساري بفضل مواهبه وحدها. فقد ظهرت حركات يسارية في الغرب خلال السنوات الأخيرة لأسباب بنيوية: نظام اقتصادي يؤدي إلى تراجع مستويات المعيشة، وتزايد انعدام الأمان، وانهيار المجال العام، إلى جانب سياسة خارجية كارثية دموية. لذلك يجب أن يتحلى كل سياسي بالتواضع. فهم يركبون موجة، وينبغي أن يروا أنفسهم أوصياء على حركة رفعتهم. فإذا انتهى بهم الأمر إلى تدمير هذا الإمكان بدلًا من تعزيزه، فإن ملايين التائقين إلى تغيير جذري لن يغفروا لهم.
المصدر: الغارديان
اقرأ أيضًا:
- تحليل جديد: كوربين قد يسحق ستارمر وحكومته في الانتخابات المقبلة
- حزب جيريمي كوربين يستعد للانطلاق في نوفمبر رغم “خلافات داخلية”
- تصريح متطرف.. ضياء يوسف من حزب ريفورم: كوربين أسوأ من تومي روبنسون
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇