جوناثان كوك: دماء غزة تلطخ عتبة باب ستارمر

في لحظة تبدو كأنها منسّقة بعناية، تخلّت عواصم غربية كبرى مثل لندن وباريس وأوتاوا فجأة عن صمتها الطويل، وشرعت في إدانة ما وصفته بـ”التجاوزات الإسرائيلية غير المقبولة” في غزة. لكن الحقيقة التي يصعب إخفاؤها أن هذا التغير الدرامي في اللهجة لا يعكس صحوة أخلاقية، بقدر ما يكشف عن مناورة سياسية هدفها تجميل صورة التواطؤ الغربي في إبادة مستمرة منذ أكثر من عام ونصف.
تبدّل في اللهجة أم إعادة تموضع؟

لسنوات، وفّرت الحكومات الغربية غطاءً دبلوماسيًا وسياسيًا وعسكريًا لإسرائيل، في واحدة من أكثر الحملات دموية ضد شعب أعزل في العصر الحديث. ومع اقتراب العدوان الإسرائيلي من مراحله النهائية، يبدو أن الغرب، وتحديدًا بريطانيا بقيادة كير ستارمر، يسعى إلى القفز من سفينة يغرقها الفشل الأخلاقي والسياسي.
ستارمر، إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني، أصدر بيانًا مشتركًا هذا الأسبوع يصف المعاناة الإنسانية في غزة بأنها “غير مقبولة”. لكن اللافت أن هذا “التحول” أُطلق بعد تنسيق مسبق مع إسرائيل، بحسب ما كشفه مسؤول إسرائيلي لصحيفة “هآرتس”، حيث وصف ما حدث بـ”كمين دبلوماسي معد مسبقًا”، هدفه التخفيف من وقع الانتقادات الأوروبية خلال اجتماع بروكسل.
بعبارة أخرى، فإن الإدانة المزعومة ما هي إلا جزء من مسرحية تهدف إلى شراء الوقت السياسي والعسكري لإسرائيل كي تُنهي ما بدأته من تطهير ممنهج.
مأساة غزة: المجاعة كسلاح حرب
أرقام المجاعة الصادمة باتت الآن محورًا في المشهد. إذ حذّر توم فليتشر، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، من احتمال وفاة 14 ألف طفل خلال 48 ساعة، بسبب الحصار الخانق المفروض على القطاع.
في مواجهة هذه التحذيرات، سمحت إسرائيل بدخول خمس شاحنات فقط من أصل آلاف محتجزة، فيما رفع العدد لاحقًا إلى قرابة 100 شاحنة – أي أقل من خمس الاحتياجات اليومية، وفق تقديرات الأمم المتحدة. لكن، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يصل أيٌّ من هذه المساعدات إلى السكان المحاصرين.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فقد صرّح بصراحة أن السماح بهذه الشحنات لم يكن بدافع إنساني، بل كـ”مناورة علاقات عامة” تهدف إلى تهدئة الضغوط القادمة من العواصم الغربية. تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بيزاليل سموتريتش كانت أكثر فجاجة حين قال: “نحن لا ندمّر حماس فقط، بل كل ما تبقى من غزة”، وتحدث عن “تطهير” القطاع.
التواطؤ البريطاني… و”الإجراءات الرمزية”
رغم التصعيد الإسرائيلي، فإن “الإجراءات الملموسة” التي وعدت بها بريطانيا بقيت أقرب إلى الرمزية منها إلى الفعل السياسي الجاد. جرى استدعاء السفيرة الإسرائيلية في لندن، وعلّقت المملكة المتحدة مؤقتًا محادثات تجارية مع تل أبيب – اتفاق كان من المفترض أن يعمّق العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
في المقابل، حين تعلّق الأمر بروسيا، فرضت بريطانيا والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية صارمة، شملت قطاع الطاقة والصادرات العسكرية، فقط لأنها تباطأت في وقف إطلاق النار مع أوكرانيا. أما إسرائيل، فرغم تورطها في إبادة موثقة بغزارة، فلا تزال تُعامل كشريك موثوق، بل وشاركت مؤخرًا في مسابقة يوروفيجن الغنائية.
المفارقة أن حكومة ستارمر، التي تعهدت في سبتمبر الماضي بتقليص صادرات الأسلحة إلى إسرائيل بنسبة 8%، زادت هذه الصادرات في الأشهر الثلاثة التالية بنسبة تجاوزت ما صدره حزب المحافظين في ثلاث سنوات مجتمعة.
كما كشفت بيانات تتبع الطيران أن طائرات بريطانية نقلت أسلحة إلى إسرائيل هذا الأسبوع، وأجرت طلعات تجسسية فوق غزة، دعما للعمليات العسكرية الإسرائيلية.
السردية الجديدة: تبرئة الذات وتحميل نتنياهو المسؤولية
الواضح أن الغرب يسعى إلى إعادة صياغة السردية: تحميل نتنياهو وحده مسؤولية المجازر، والإيحاء بأن ما يحدث في غزة انحراف عن “قيم إسرائيل الديمقراطية”. لكن هذا إنكار صريح لحقيقة أن مشروع الإبادة والتطهير العرقي لم يُنفّذ من قِبل شخص واحد، بل بدعم واسع من مؤسسات الدولة الإسرائيلية، وتأييد شعبي داخلي ملحوظ.
حتى داخل إسرائيل، بدأت أصوات نادرة تنتقد الحكومة، ليس بدافع أخلاقي، بل خشية على مصير الرهائن الإسرائيليين في غزة. وقد عبّر الجنرال السابق يائير غولان، رئيس حزب الوسط، عن غضبه قائلًا إن “الحكومة تقتل الأطفال كنوع من الهواية”، ليرد عليه نتنياهو باتهامه بـ”معاداة السامية”.
في الوقت ذاته، يتحدث ستارمر وماكرون وكارني عن “إعادة تقييم العلاقة مع إسرائيل”، في محاولة لإقناع شعوبهم بأنهم لم يكونوا شركاء في الإبادة، بل ضحايا خداع سياسي. وبهذا، يمكنهم تبرير تقاعسهم ورفضهم لأي إجراءات حقيقية كفرض العقوبات أو الاعتراف الفوري بدولة فلسطين.
الحقيقة التي لا يمكن دفنها
الواقع أن الجمهور الأوروبي والأمريكي لم يعد كما كان. البث الحي، وموجات التضامن، والوعي المتزايد بمجازر غزة، جعل من المستحيل إعادة تدوير الأكاذيب السابقة.
مهما حاول ستارمر ومن معه تبرئة أنفسهم، فإن شلال الدماء الذي لا يزال يتدفق في غزة، ينتهي عند عتبة أبوابهم. فقد صمتوا، دعموا، سلّحوا، وشاهدوا. ولا سردية جديدة – مهما حُبكت – قادرة على طمس هذا التواطؤ.
إقرأ أيّضا
الرابط المختصر هنا ⬇