العرب في بريطانيا | تعلمتُ في بريطانيا

1445 ذو الحجة 27 | 04 يوليو 2024

تعلمتُ في بريطانيا

تعلمتُ في بريطانيا
عادل يوسف May 31, 2024

ثلاث إضاءات استنشقتها من رحيق الأيام، وصولجان لياليها الباردة، آخذ بها حينًا ويغلبني أحايين كثيرة. عنونتها بالرقم 3، أي ثلاثة مكتسبات بعد ثلاثة عقود أمضيتها في بلاد بني الأصفر.

هي أشبه بمحاولة لفك شفرة الحياة، وتلمُّس مواضع المعوقات، لي أولًا، ثم لبني جنسي كما يقول الأديب الزيّات: نأخذ بيد الأدنى فيصعد، ونُثبت قدم الأعلى ليتمسك، ثم ندفع المرتفع صعودًا في السماء ليكون باستعداده أقرب إلى الحق المطلق، والخير المحض، والجمال الكامل.


1.

تعلمتُ في بريطانيا

في الأثر الإنجليزي (الإناء المراقب لا يغلي)، هي حالة تمر على الكل تقريبًا، حين تترقب حدوث أمر ترجوه بكل لهفة وتشوق، ثم ما إن يلبث ويتأخر عن موعده الذي خلت أنه موعده وما هو بذاك، حتى تندب حظك وتبحث عن شماعة تُلقي عليها اللوم.

أدركت بعد بُرهة ليست بيسيرة أنه ما هكذا تُورَد الإبل. فأنت بانتظارك تأخذ الأمور في عقلك أطول من عمرها المعتاد.

يا أخي هب أنك لم تظفر بما رغبت، حينها ستموت مرتين: مرة بفوات المطلوب، وأخرى بعدم الاستفادة من الموجود. الانتظار قاتل بطيء، هو سم يعبث في جسم يومك حتى يهوي به في مكان سحيق. فضلًا عن أن الترقب ما هو إلاّ وسيلة من وسائل التهرّب، وسيمفونية انتظار الوقت المناسب وجه من وجوه الاختباء والتخفي.

قالوا في تعريف الصبر: فن العثور على عمل آخر تقوم به. وللكاتبة الأنيقة لبنى الخميس تعقيب آخر تقول فيه: تأمل، اذهب للمشي، امتطِ صهوة دراجتك وتجوَّل دون وجهة، هناك هدف خلاّق -للفهاوة- على حد تعبيرها، إذ تزورنا معظم الأفكار عندما نتوقف عن ممارسة نشاط ما، حين نسمح لجزيئات التجارب بأن تطفو على عقلنا اللاواعي… إلخ.

قلت: لو علمت أن بعد أُفول شمس هذا اليوم ستُطوى صحيفتك للأبد، أكان من أمرك ما أنت فيه الآن؟! فإن أجبت بنعم فقد أخطأت، وإلا فلم الانتظار والترقب إذن؟!

تُكمل لبنى -بتصرف- النجاح الفوري والإنجاز بين عشية وضحاها، ما هو إلا محض خرافة، إضافة الى أنه تذكير بأن تعريفنا الحالي للنجاح يحتاج الى مراجعة، لا تتحول النبتة من برعم إلى زهرة في فورة واحدة، العملية معقدة وتأخذ وقتها، وبالرغم من هذه الحقيقة، فإننا غير مهتمين برحلة النمو تلك وما يصاحبها من جمال وسحر.

وعند العارفين الوقت: نظام كوني تراتبي يمنع حدوث الأشياء دفعة واحدة.

قلت: كثير من أبناء قومي مَرَدوا على السرعة في كل شؤون حياتهم، وما ذاك إلا نتيجة تخبطات مواقع التواصل الزائفة ومقارنة الأقران المجحفة.

فيا من ارتضت نفسه التعّجل، هوِّن عليك؛ فما فاز متعجل قطّ. من صبر ظفر، ومن تأنّى نال ما تمنّى، وإن أذن الله لك بشيء فسيأتيك ولو مع الرياح (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُون).

أدركت بعد زمن أن السلحفاة أكثر حكمة من الأرنب؛ إذ لا شيء يستحق الركض من أجله في هذه الحياة. كذا يقول الساخر دوستويفسكي.

ولكن في التاريخ صفحات منزوية، تُنبئك عن أقوام تعجلوا في اتخاذ القرار، فكان ما كان من حسراتهم وعاقبة أمرهم. ففي أدب الساموراي يقولون: لو كانت اليابان تعلم أن العم سام لا يملك إلاّ قنبلتين ذريتين فقط، لما استسلمنا بهذه السرعة!

وما مُنِي المسلمون بالشدّة -يوم أُحد- إلّا عندما تعّجل الرماة قطف الثمار قبل أوانها، وقد حذرهم عليه الصلاة والسلام: لا تبرحوا مكانكم وإن رأيتمونا تخطّفنا الطير.

وما مجاهدة الإنسان توصله
رزقًا، ولا دعة الإنسان تقطعه
قد وزع الله بين الخلق رزقهم
لم يخلق الله من خلق يضيعه

من نافلة القول ألا تنقل عني -يرعاك الله- أني أدعو إلى الركون والدعة، وعدم الأخذ بالأسباب وإن كانت موجعة، فلا والله ما لهذا أردت، ولا لذاك حبّرت، ولكن هي الوسط بين أمرين، والفضيلة بين رذيلتين، وحسبك من القلادة ما أحاط بأعناق الجميلات.


2. 

يحكى أن رجلًا يدعى “ميرفي”، موظف في قطاع الملاحة البحرية، خلال أدائه لعمله كان يُحدق في الأشياء ويسجل مشاهداته وتأملاته، ليقطع بها سأم الوظيفة، وروتين الأيام الممل.

بعد جمعه لعدد لا بأس به من الملاحظات بدأ بنشرها في مواقع التواصل تحت عنوان: “قوانين ميرفي”، فوجئ بأن التأملات تلقفتها أيدي الناس بإعجاب وكُتب لها القبول بينهم، اشتهر ميرفي وأصبح يُدعى في المؤتمرات والمحاضرات ليُلقي عليهم ما أملته عليه الحياة بدورها، من خلال عمله الضيق المحدود، كما تحكي أساطير ديانة الشنتو: “تستطيع أن ترى السماء من ثقب إبرة!”.

أحدها -أي القوانين- لاحظ ميرفي أن السفن من بعيد تبدو جميلة برّاقة، وهي تمخر عُباب البحر في زهو وثبات، أطنان من الفولاذ الفضي على شكل مثلث في مقدمتها، يعلوها شِراع نُصب على متنها يزينه شعار الشركة المشغلة.

لكن المفارقة ما إن تقترب من اليابسة وترتطم بالمرسى حتى تظهر حقائق أُخَر غير التي عهدها، الجزء السفلي المتآكل من الصدأ، وجوه شاحبة من العمال أعياهم دوار البحر…إلخ.

بعد اندهاشه طفق يكتب في مدونته (كل شيء على بعد 30 مترًا يبدو جميلًا!)

قلت: العلاقات كما البواخر سيد ميرفي، كلنا لطفاء من بعيد، لكن ما إن تتخذ خطوة الاقتراب لدى الدائرة المصغرة من أحدهم حتى تكتشف حقائق كان الأجدر بك ألا تُدركها!

أذكر في إحدى الندوات لمولانا الشيخ علي أبو الحسن لما استطرد في ذكر العلاقات، وأخذ يُشرّق ويُغرّب، ويطرح بين أيدينا أفانين القول، وأعاجيب الحكايا والأخبار، أنه ابتدع مفهومًا حداثيًّا لما يسمى “الحب” لذيذ العبارة تطرب الآذان لسماعه، وهو مع ذلك دقيق المعنى تحار العقول في التدبر فيه، عسير التطبيق تتهاوى النفوس لابتغاء مرضاته. قال: الحب ذكاء المسافات!

العلاقات هي فن إبقاء معصمك في منتصف العصا، فلا تقترب حد الملل، ولا تبتعد حد الضجر.

حتى في تفقد أحوالهم، لا تسأل عما أخفوه عنك فيُمقتوك، ولا تترك سؤالهم بالكُليّة فيبهتوك، أي لا تكن قاسيًا فتكسر، ولا لينًا فتعصر.

العلاقات خطوط مائلة كما ذكر الأستاذ ياسر الحزيمي، فإذا تقاربت تقاطعت وربما للأبد.

في العلاقات صناديق سوداء حذارِ أن تفتحها! وزوايا مظلمة ليس عليك إنارتها، وأوقات مبددة ما خُلقت لتملأها. هي تمامًا كقطرة الزيت في الماء، لا تختلط بالآخرين، ولا تبتعد عنهم.

وباكورة ذلك كله ما رُوي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه: “أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما”.


3.

يقول الشيخ محمد راتب النابلسي: غاية الإنسان في الدنيا ثلاثة: السلامة، والسعادة، والاستمرارية.

الناس كل الناس مسلمهم وفاجرهم يبتغون سلامة أجسامهم من العلل، وأن يُصبحوا سعداء لا يكدر صفو يومهم عارض، وبطبيعة الحال استمرار ذلك يوميًّا؛ فهم لا يرضون أن يبيتوا أصحاء الجسم معافَين ويصبح بهم آفة وعلّة.

قلت: تلك غايةٌ عظيمة لا تتأتى إلاّ بعظيم. ففي -ما معنى الحديث- لما لقي النبي عليه الصلاة والسلام الأعرابي وهو يهم إلى الصلاة قائلًا: يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل على الله؟ فرد عليه الصلاة والسلام: اعقلها وتوكل.

أراد بقوله أن يا رسول الله سأترك ناقتي هاهنا وأذهب للصلاة وأتوكل على الله، ألا تهرب وتطولها أعين الشُطّار، فردّ الصادق المصدوق على الفور: اعقلها أي أربطها، أي خذ بخطام ناقتك، وابحث عن مكان مناسب تعقدها فيه، بحيث تستكمل كل الأسباب. لاحظ أنه أردف بعدها وتوكل، وعند النحويين الواو حرف معيّة.

لأن الإفراط في التفكير في الدنيا من غير رب الأسباب ضياع، وابتهال من دون إعقال فعل الدراويش البطالين.

ما يهمني هنا لفظة “اعقلها ” عمل متقن، مرّكز، دقيق، تُجابه به ثقل الأيام ويدفع عنك ملامة اللائمين.

هناك قاعدة مركزيّة عند الفقهاء (كلما ضاق الأمر اتسع، وكلما اتسع ضاق)

أي من أعياه الإتيان بالقيام في الصلاة مثلًا لمرض ونحوه، أباح له الشارع أن يصلي جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنب. المهم أنه كلما ضاقت عليك الأمور أرخت الشريعة الحبل لتأتي بأيسرها عليك. والعكس فكلما كنت كاملًا مسلمًا، سليم العقل، بالغًا… إلخ، وكلما اتسعت وسلمت من الآفات، شددت عليك الشريعة الحزام؛ حتى تستوفي الأركان والشروط كاملة من غير تهاون ولا إسفاف، وهكذا دواليك في سائر العبادات.

فإذا أسقطنا القاعدة على حديثنا، فكلما كنت “معقلها” أي متخصصًا في فن معيّن، بارعًا فيه، تحوط قديمه وتدرك ما تجدد من أمره، اتسعت لك الدنيا، وتفتح لك الشركات ذراعيها لتحتضنك، ويتسابق المديرون ليخطبوا ودك.

في المقابل شاب لا يملك مهارة ولا برع في فن، سيبحث عن أي عمل يُقوّم به اعوجاج الأيام. في الغالب لن يجد، وبالكاد فمكان واحد شاغر تتنافس عليه أمة من العاديين، وظيفة لا تُبعدك عن فقر ولا تُقربك من غنى، تمامًا كالماء المختلط بنجس -دون القلتين- لا يرفع حدثًا ولا يُزيل نجاسة.

فالعلاقة هنا عكسية، فكلما تخصصت في مجال وبرزت فيه؛ فتحت لك الحياة أبوابها تدخل من أيها شئت، وكلما تصرمت أيامك في أعمال لا مهارة فيها؛ ضاقت عليك الأرض بما رحُبت.

تفرّس فيمن حولك، قلّما يجود الزمان بصاحب مهارة عاطل؛ فالأجور الزهيدة، والأعمال الشاقة، والطوابير الطويلة هي لمن لم يَعِ “اعقلها” بعد.

ويْكأنّي أعض أصابع الندم في الإدراك المتأخر، ولسان حالي: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ولكن حسبي وحسبكم أنه ما تأخر من بدأ، ولو أن لي بكم قوة ما تركت أحدًا إلّا وزمّرت في أذنيه ثلاثًا: اعقلها، اعقلها، اعقلها!

قد يظن ظان عند التطرق للمهارات أنك تتحدث عن أصحاب الحِرف كالحدادين والنجارين وما شابه، وهذا تخصيص لعام، وتجزيء لكل، وإلّا فباب المهارات أوسع بكثير. وقد ذكرتها مفصلة في مقالة منفردة في هذه المنصة المباركة. ما فيه غُنية عن الإعادة، وعلى الله فليتوكل المتأملون.

 


اقرأ أيضًا:

4 تعليقات على “تعلمتُ في بريطانيا”

    1. ما شاء الله تبارك الله كلام جميل من شخص أجمل.

اترك تعليقا

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

loader-image
london
London, GB
10:45 am, Jul 4, 2024
temperature icon 17°C
scattered clouds
Humidity 53 %
Pressure 1010 mb
Wind 15 mph
Wind Gust Wind Gust: 0 mph
Clouds Clouds: 40%
Visibility Visibility: 0 km
Sunrise Sunrise: 4:49 am
Sunset Sunset: 9:19 pm