تجاهل عنصرية الغرب يعني تكرار مأساة غزة

عندما سقطت مدينة حيفا في أيدي الصهاينة في إبريل عام 1948، حدث ذلك بتواطؤ من القائد البريطاني في المدينة آنذاك، اللواء هيو ستوكويل. ففي مواجهة الهجوم الوحشي الذي شنّته منظمة «الهاغاناه»، الميليشيا اليهودية التي أصبحت لاحقًا جيش الاحتلال الإسرائيلي -وهو الهجوم الذي سمح ستوكويل بحدوثه- نصح العرب المذعورين بقبول شروط الاستسلام التي فرضتها «الهاغاناه»، أو مواجهة مقتل المئات منهم.
وهذا في جوهره هو نفس الإنذار الذي تمليه الولايات المتحدة -النسخة الحديثة من بريطانيا في فلسطين- على حركة حماس اليوم.
فخطة «السلام» ذات النقاط العشرين التي قدمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمستقبل غزة يمكن تلخيصها في رسالة واحدة إلى حماس: «اقبلوا شروطنا دون تعديل أو نقاش، أو واجهوا مزيدًا من الموت والدمار».
إن هذا النهج القائم على «وضع المسدس على الرأس» تجاه الفلسطينيين ليس جديدًا، بل يعكس ذهنية غربية فريدة تجاه الشعوب غير البيضاء، ذهنية تتعمد التقليل من شأن حقوقهم وتجاهل تطلعاتهم.
لقد كان هذا الموقف في صميم تعامل الغرب مع الشعب الفلسطيني منذ «وعد بلفور» عام 1917 وحتى الخطة الأميركية الحالية.
ففي عام 1917، لم يتردد اللورد آرثر بلفور في إعلان أنه لا ينوي استشارة سكان فلسطين الأصليين بشأن المستقبل الذي كان يرسمه لبلادهم، إذ كان يُنظر إليهم على أنهم لا يستحقون الاعتبار في المشروع الاستعماري البريطاني.
تواطؤ في الإبادة الجماعية
بعد أكثر من قرن، لم يتغير شيء بالنسبة للنخب الغربية، بل على العكس، ازداد ازدراؤها واستعلاؤها تجاه الفلسطينيين. ولا شيء يفسر تواطؤ الغرب وصمته على مدى عامين من العدوان الإسرائيلي الإبادي على غزة سوى هذا الاستعلاء.
تخيلوا لو كان الضحايا أوكرانيين أو أوروبيين بدلًا من العرب، كيف كان سيكون رد الفعل الغربي حينها؟
وليست النخب الغربية وحدها من يحمل هذه النظرة، بل كثير من الناس العاديين في الدول الغربية ما زالوا، رغم كل ما حدث، يعتبرون إسرائيل «دولة مقبولة».
فالارتباط بالفكرة الدينية التي تقول إن اليهود ينتمون إلى «الأرض المقدسة»، والتعاطف مع معاناتهم خلال المحرقة النازية، منحا إسرائيل شرعية وجودها بوصفها «دولة يهودية». ونتيجة لذلك، لا يفهم كثيرون أن الصراع نشأ أساسًا عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وتجريد الفلسطينيين من أرضهم.
وهذا لا يجعلهم بالضرورة عنصريين ضد العرب، لكنه يُحدِث بيئة تسمح باستمرار تحيّز النخب الحاكمة.
وفي ظل هذا السياق، ليس مفاجئًا أنه بعد مرور عامين على أحداث الـ7 من أكتوبر 2023 -ورغم الانتفاضة العالمية الداعمة لفلسطين- تمكن الغرب من صياغة خطة «سلام» تُبرئ إسرائيل من جرائمها، وتمنحها نصرًا لم تكن قادرة على تحقيقه عسكريًّا، وتُرسّخ في الوقت نفسه قبضته الاستعمارية على فلسطين.
وقد رحبت دول كثيرة بالخطة الأميركية، ربما لأنها تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وتبادل للأسرى وإدخال المساعدات الإنسانية وإنهاء خطر التهجير القسري.
لكن لا ينبغي الانخداع بأهدافها الحقيقية؛ فخطة ترامب صُممت لتدمير حركة المقاومة الفلسطينية واستعمار غزة.
فكيف يمكن تفسير صياغة خطة بشأن مستقبل غزة دون إشراك الفلسطينيين أنفسهم، مع السعي لفرض إدارة أجنبية تسلب سكان القطاع إرادتهم واستقلالهم؟
والأدهى من ذلك أن «مجلس السلام» المقترح لإدارة غزة سيترأسه ترامب نفسه، المحرّض والممكّن لجرائم إسرائيل الإبادية، والذي لولاه لظل آلاف الفلسطينيين على قيد الحياة اليوم.
ولم يكتفِ المخطط بذلك، بل ضمّ أيضًا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي يُعَد في نظر الفلسطينيين مجرمًا؛ بسبب دوره في حرب العراق وانحيازه الدائم لإسرائيل.
معضلة قاسية
الرسالة الخفية في خطة ترامب للسلام هي أن حماس هي سبب مأساة غزة، ومن ثَمّ يجب إنهاء حريتها في التحرك. فعليها أن تقبل بشروط الخطة أو «تدفع الثمن في الجحيم»، على حد تعبير ترامب.
وتنص الخطة على أن حماس يجب أن تطلق سراح جميع الأسرى لديها -الأحياء والأموات- خلال أول 72 ساعة من موافقة إسرائيل على الاتفاق، وأن تتخلى عن سلاحها وأي دور لها في حكم غزة.
وباختصار، تسعى الخطة الأميركية إلى إعادة تأهيل صورة إسرائيل، التي باتت تُعَد «دولة منبوذة»، مع السماح لها بمواصلة استعمار الضفة الغربية -التي لم يُذكر عنها أي شيء في الخطة. كما تمنح الخطة مطوري العقارات، مثل صهر ترامب، الحق في استغلال غزة اقتصاديًّا، وربما تتيح لترامب ما يطمح إليه بشدة: جائزة نوبل للسلام.
وسيتم كل ذلك بموافقة دولية ودعم من دول عربية وإسلامية يُتوقع أن تتحمل كلفة إعادة إعمار القطاع.
أما ما سيحدث لاحقًا، فلا يزال مجهولًا. فحماس تواجه معضلة قاسية: إما أن تقبل إنذار ترامب -وقد وافقت بالفعل على بعض الشروط لكن العقبات الكبرى ما تزال قائمة- مع خطر تدمير نفسها، أو ترفض فتُحمّل مسؤولية مزيد من الدماء والدمار في غزة. إنها هزيمة لحماس في الحالتين.
ومع ذلك، ليست هذه التفاصيل السياسية الفورية ما ينبغي أن يقلقنا أكثر، بل الإمبريالية الغربية نفسها، وما يصاحبها من ازدراء لـ«السكان الأصليين»، هي التي أوصلتنا إلى هذه النقطة. وما دامت هذه الذهنية مستمرة، فلن تنتهي معاناة الفلسطينيين ولا اضطهاد الشعوب غير البيضاء.
حتى لو انتهت الإبادة في غزة، ستشتعل بؤر توتر أخرى في أماكن مختلفة، وستُدار بنفس الطريقة التدميرية المتغطرسة.
ولن يتمكن العالم من السير نحو مستقبل يقوم على العدالة لا على الاستبداد والقوة العمياء، إلا عندما تُواجَه العنصرية المتجذرة في سلوك الغرب وتنتهي إلى الأبد.
المصدر: ميدل إيست آي
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇