بين النّصيحةِ والجرح: خيطٌ رفيعٌ من النّبلِ والنيّة

ما أبعدَ المسافةَ بين الكلمةِ الّتي تُرمّم، وتلك الّتي تُهدّم!
وما أضيقَ الفجوةَ بين “أن تقول” و”أن تقتل” بصيغةٍ منمّقةٍ!
فليست كلّ كلمةٍ تُقال من باب الصّواب، تُثمرُ أثرًا طيّبًا في القلب.
وليس كلّ من لبسَ عباءة النّاصح، حمل في طيّات قلبه رحمةً أو محبّةً.
النّصيحةُ ولادةُ المحبّة، تنبع من قلبٍ رأى فيك امتدادًا له، فأحبّ لك ما أحبّ لنفسه.
هي ضوءٌ خافتٌ لا يُؤذي العين، لكنّه يُنير العثرة لتتجنّبها.
هي يدٌ تُشير لتُعين لا لتدين.
أما الجرحُ، فصوتٌ أجوف يتكلّم ليُسمع ذاته.
هو الضّوءُ المسلَّط عليك لتحترق تحت وهجه.
النّاصحُ يُربّت على كتفكَ حين تتعثّر، أمّا الجارحُ فيطعن ظهركَ ويقول: “ألم أقل لك؟!”.
النّاصحُ يراكَ نفسه، ويحرص على صونك كي لا تنكسر، أمّا الجارحُ، فلا يرى فيك إلّا فرصةً ليصعد على أنقاضك، ويثبت أمام نفسه أنّه الأذكى، والأصوب، والأعلى.
النّصيحةُ ليست صوتًا مرتفعًا، ولا لهجةً حادّةً، ولا تقليلًا من شأن المنصوح بكلامٍ مهينٍ ومقلّلٍ من شأنه، إنّما هي نبضٌ خافتٌ، يأتيك في لحظةِ تهيُّؤٍ داخليٍّ، ويختار ألفاظه كما يختار الشّاعر قوافيه.
إنّها التّوقيت، والنّية، والرّحمة، والكلمة الّتي لا تَنْكَأ الجرح بل تُضمّده.
كم من حقيقةٍ قيلت، فكانت سمًّا على هيئة دواء!
وكم من جملةٍ قصيرةٍ، جاءت في وقتها وبأسلوبها، فأعادت لإنسانٍ ثقته بنفسه، ووقفت على شفير انكساره.
قال الإمام الشافعيّ:
“من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علنًا فقد فضحه وشانه”.
وهنا تتجلّى الفلسفة: فالكلمةُ تُنبتُ، أو تُميت، على حسَب الأرض الّتي تُلقى فيها، والزمن الّذي تُقال فيه، واليد الّتي تمُدُّها إليك.
في هذا الزّمن الصّاخب الّذي تتسابق فيه الألسنةُ قبل العقول، أصبح الجرحُ يُباع في أسواق النّصيحة، والصّراحةُ تُستعمل قناعًا للوقاحة.
صار بعضنا يصلب الآخر بكلمةٍ، ثمّ يقول: “أنا أُحبُّك فقط!”.
لكنّ الحب لا يُهين، والنّصح لا يُشعرُكَ بالدّونية، بل يرفعك، ويُمسك بك، ويهمس في أُذنك:
“أنتَ أخطأت، لكنّني أُحبّك بما يكفي لأبقى إلى جوارك حتّى تُصلح المسير”.
ومن هنا نتذكّر دومًا:
ليس كلُّ ما يُقال يُراد به الخير، وليس كلُّ ساكتٍ غافلًا، فبعض الصّمتِ حكمةٌ، وبعض الكلمات سِهامٌ مغلّفةٌ بورق النّيّات.
والنّصيحةُ الّتي تخلو من الرّحمة، ليست سوى جُرحٍ مُهذَّب.
وإن لم تستطع أن تُهدي غيركَ بلينٍ ورفقٍ، فصمتُك أجمل، وأكرم، وأبقى.
اقرأ أيضًا:
- كيف يغير الفقد نظرتنا للحياة.. في وداع الوالد
- موجة الحر في بريطانيا.. هل يجب إبقاء النوافذ مفتوحة أم مغلقة؟
- ما الحقوق التي يكفلها القانون البريطاني للمتظاهرين؟
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇