بين ألم الجوع ووجع الضمير: دروس من غزة لا تُنسى

ذات مساء، قررت أن أخلد إلى النوم دون عشاء. لم يكن ذلك عن فقر أو عوز، بل كان بدافع الحفاظ على الرشاقة والراحة. ولكن لم تمضِ ساعة حتى بدأت أسمع صوت معدتي الخاوية، ترافقه آلام خفيفة في الرأس وأرق مزعج. شعرت وكأن بطني التصق بظهري. تقلبت في فراشي مرارًا محاولةً النوم، لكن كل دقيقة كانت ثقيلة… ثقيلة بما شعرت به، وثقيلة أكثر بما تذكّرته.
تذكّرت أطفال غزة.
أولئك الذين لا يقرّرون أن يناموا جَوعَى. بل يُجبرون على ذلك قسرًا، تحت حصار قاتل فرضه الاحتلال الإسرائيلي، في ظل تجويع متعمّد يُمارس ضدهم ضمن حرب إبادة مكتملة الأركان. تذكّرت وجوهًا شاحبةً وأجسامًا هزيلة بالكاد يغطيها الجلد، وشعرًا أصفر بفعل نقص البروتين، وعيونًا فقدت بصرها ليس لمرض أو وراثة، بل لأن الجوع استوطن العصب البصري.
أرق الليل الذي راودني لساعة كان سببًا في صحوة ضميري. لكنْ هناك -في غزة- أطفال لا ينامون لأيام متواصلة من شدة الجوع والخوف… جوعهم ليس بعد وجبة كاملة من الغذاء والحلويات والعصائر مثلي، بل بعد أيام دون خبز أو ماء نظيف. ومع هذا، تسمعهم يحمدون الله ويصبرون، أما نحن فنتأفّف من طعام لم يعجبنا أو حرارة لم نحتملها في بيوتنا المكيفة.
في غزة، تحت خيم مهترئة وبلا كهرباء، ينام الجائعون على وقع القصف، ويصحو الأحياء منهم على فَقْدِ أحد الأحبة. هناك لا وقت للترف أو الشكوى، بل فقط للصمود.
هنا نرمي الطعام في القمامة لأن “طعمه لم يعجبنا”، وهناك يتقاسم طفل رغيفًا واحدًا -إن وُجد- مع قطته التي بدورها أصبحت هيكلًا عظميًّا من الجوع. مشاهد لا تفارق مخيلتي، لجثث القطط والكلاب تحت الأنقاض، وصور أشخاص يقاسمونهم الماء والفتات رغم ما هم فيه من جوع. صورٌ تعري وحشية الاحتلال… وتعرّي أيضًا ازدواج معايير هذا العالم.
تأملت وجعي الصغير، فتذكّرت قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو أن بغلة تعثرت في العراق لسُئلت عنها يا عمر، لِمَ لمْ تمهد لها الطريق؟” فأين نحن من هذا؟ كيف نسينا وصايا الرسول ﷺ والصحابة الكرام حين كان الجوع امتحانًا للرحمة، لا سلاحًا للإبادة؟
هل أصبح الضمير رفاهية؟
هل تعوّدنا على النِّعَم حتى فقدنا الإحساس بمن حُرموا منها؟
لقد علّمتني غزة درسًا قاسيًا وضروريًّا. وهو أن الجوع لا يُقاس بفراغ المعدة فقط، بل بوجع الكرامة، وذلّ الحرمان، وخذلان العالم. وأن هناك من يصمد كي نرى نحن، فنخجل، وأن هناك من يُقاوم حتى تبقى ضمائرنا حيّة.
غزة لا تحتاج إلى شفقتنا، بل تحتاج إلى أن نراجع أنفسنا… فالجوع الذي يؤلم الجسم يمكن احتماله، لكن الجوع الذي يقتل الضمير هو الهلاك بعينه.
اقرأ أيضًا:
الرابط المختصر هنا ⬇
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة