الهجرة كورقة انتخابية: ماذا تريد الحكومات البريطانية من اللاجئين؟
لم يعد ملف الهجرة في بريطانيا مجرد شأن إداري أو قضية حقوقية أو موضوع يتعلق بالتنوع داخل المجتمع، بل تحول خلال العقدين الماضيين إلى واحدة من أكثر الأوراق السياسية حساسية واستثمارًا في الحملات الانتخابية، سواء لدى المحافظين أو العمال. وبينما يفترض أن تكون سياسات الهجرة جزءًا من رؤية استراتيجية للدولة تراعي مستقبل الاقتصاد والمجتمع، فإن المتابع يجد أن الحكومات المتعاقبة تتعامل مع هذا الملف بعقلية قصيرة المدى، تبحث عن مكاسب آنية وترضية المزاج الشعبي المتقلب، بدل التفكير في موقع بريطانيا خلال عشرين أو ثلاثين عامًا.
ولا يمكن فهم هذا التحول دون التوقف عند الدور الذي لعبه الإعلام البريطاني في تضخيم ملف الهجرة وتقديمه باعتباره “أزمة دائمة”. فغالبًا ما تتصدر الصحف الشعبوية عناوين تثير الخوف وتحرض ضد اللاجئين، وتربطهم بالجريمة أو تهديد الهوية أو الضغط على الخدمات العامة، رغم أن الأرقام الرسمية لا تدعم هذا الخطاب. ومع الوقت، أصبح الرأي العام أسيرًا لصورة مشوهة، ما سهّل على السياسيين توظيف الملف انتخابيًا دون تكلفة أخلاقية تُذكر.

الغريب أن بريطانيا، التي كانت من أوائل الدول الموقعة على اتفاقية جنيف الخاصة بحماية اللاجئين، تواصل اليوم تضييق الخناق على من يطلبون الأمان على أراضيها. ورغم أن هذه الاتفاقية تنص بوضوح على حماية الفارّين من الاضطهاد والحروب، فإن الخطاب السياسي والإعلامي السائد في البلاد يتجه إلى تصوير اللاجئ باعتباره عبئًا على النظام العام، لا إنسانًا يبحث عن فرصة للحياة. وهنا يظهر التناقض الفاضح: توقيع رسمي يقرّ بالمسؤولية الأخلاقية والقانونية، مقابل ممارسات تُغلِّب الحسابات الانتخابية وخطاب الخوف والتحريض.
وتتجاهل هذه السياسات حقيقة اقتصادية واضحة، وهي أن الهجرة — في معظم نماذج الدول المتقدمة — عنصر حيوي لتعويض شيخوخة السكان ودعم القطاع الصحي والخدماتي وتحفيز النمو. وحتى داخل بريطانيا نفسها، تقرّ مؤسسات رسمية بأن المهاجرين يساهمون في الناتج القومي أكثر مما يكلفون الدولة. ومع ذلك، تصر الحكومات على التضييق، في سياسة تبدو أقرب إلى “إرضاء اللحظة” بدل حماية المستقبل.
وفي المقابل، لا يمكن إنكار أن جزءًا من الأزمة يرتبط أيضًا بالعالم العربي والإسلامي، إذ إن معظم دوله ليست طرفًا في اتفاقيات حماية اللاجئين الدولية، ما يجعل ملايين المشرّدين بلا مظلة قانونية حقيقية في أوطانهم أو جوارها. ومع غياب منظومة حماية إقليمية أو تشريعات عادلة، تصبح أوروبا — بما فيها بريطانيا — الملاذ الأخير لمن فقد وطنه أو أمنه. لكن بدلاً من بناء سياسة هجرة عقلانية تتعامل مع الواقع الإنساني والاقتصادي، تتجه لندن نحو المزيد من القيود، فيما تستثمر الحكومات هذا الملف سياسيًا كلما احتاجت لصوت الشارع القلق.

وما يزيد المشهد ارتباكًا هو أن بعض أبناء العرب والمسلمين يصرّون على الاعتقاد بأن حزبًا بعينه، كحزب العمال مثلاً، سيكون دائمًا إلى جانبهم. وهذه القراءة تبسيطية وخاطئة، لأن الحزبين الكبيرين يتنافسان اليوم على إرضاء المزاج العام الذي بات أكثر حساسية تجاه الهجرة. صحيح أن خطاب العمال يبدو ألين في بعض الملفات، لكنه ليس منحازًا فعليًا للمهاجرين حين يصل إلى الحكم، بدليل أن السياسات الحالية — بغض النظر عن الحزب — تتحرك في الاتجاه نفسه: التشديد والردع والضبط. والأسوأ أن مواجهة اليمين المتطرف لا تتم عبر تبني نسخ مخففة من خطابه، بل عبر بدائل عادلة تعالج جذور المشكلة بدل تغذية الخوف.
إن مستقبل بريطانيا الاقتصادي والاجتماعي يتطلب رؤية مختلفة للهجرة، فالدولة التي تعاني من نقص في الكوادر المهنية، وشيخوخة في بعض القطاعات، وتباطؤ في النمو، لا يمكنها أن تتمسك بسياسات عزلة وتخويف. والهجرة — إذا أديرت بذكاء — ليست عبئًا، بل رافعة للتنمية وفرصة لتعزيز الحضور العالمي لبريطانيا كما كانت تاريخيًا. أما إذا بقيت ورقة انتخابية تُستَخدم لخدمة دورة سياسية قصيرة، فستدفع البلاد الثمن على المدى البعيد، وسينمو خطاب التطرف فيما تتراجع الثقة بالقيم التي لطالما ادّعت بريطانيا الدفاع عنها.
إن المطلوب اليوم هو فصل سياسات الهجرة عن الابتزاز الانتخابي، وإخراجها من سوق المزايدات الحزبية، والعودة إلى منطق الدولة لا منطق الحزب. فالمستقبل لا يُبنى بقرارات انفعالية لإرضاء الشارع مؤقتًا، بل برؤية شجاعة تُدرك أن المهاجرين جزء من الحل لا المشكلة.
اقرأ أيضًا:
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇



