لماذا أصبح المريض في بريطانيا يعيد التفكير ألف مرة قبل زيارة الطوارئ؟
لم يعد الذهاب إلى الطوارئ في بريطانيا قرارًا سهلًا كما كان يُنظر إليه سابقًا؛ فقد أصبح كثير من الناس –وأنا أحدهم– يعيدون التفكير مرارًا قبل التوجّه إلى المستشفى، خشية الوقوع في ساعات الانتظار المرهقة التي صارت واقعًا جديدًا في عمل هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS).
ورغم أن الخدمة ما زالت تُقدَّم مجانًا بتمويل من أموال دافعي الضرائب، فإن هذا الامتياز التاريخي لم يعد كافيًا لإخفاء حجم التحديات التي يعيشها القطاع اليوم، والتي باتت مادةَ جدلٍ سياسي لا يهدأ.
فالأرقام الرسمية الصادرة في عام 2025 تكشف عن حجم غير مسبوق من الضغط؛ إذ وصل عدد الحالات المدرجة على قوائم الانتظار إلى نحو 7.39 مليون مسار علاجي في نهاية أبريل، من بينها ما يزيد على 6.23 مليون شخص ينتظرون بدء علاجهم.
أما نسبة المرضى الذين يحصلون على موعد خلال 18 أسبوعًا فقط فقد هبطت إلى نحو 59.7%، وهي نسبة بعيدة عن الحدّ الأدنى الذي كان يُعَدّ طبيعيًا قبل سنوات قليلة فقط. وفي أقسام الطوارئ، تكشف البيانات أن ما يقرب من 38.9% من المرضى في سبتمبر 2025 انتظروا أكثر من أربع ساعات قبل أن يُكشَف عليهم، وبعضهم ظلّ على نقالاتٍ في الممرات لأكثر من 12 ساعة، وفق تقارير مستقلة تحدّثت صراحة عن “أزمة الممرات”.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات تقنية؛ إنها انعكاس مباشر لما يواجهه الناس في حياتهم اليومية. فحين يصل مريض –طفلًا كان أو بالغًا– إلى طوارئ أحد المستشفيات، غالبًا ما يدخل في دائرة انتظار طويلة تجعل الساعات أثقل من طاقته. وبينما يجلس هناك، قد يواسي نفسه بأن “عِلّة الانتظار” تعني أن حالته ليست شديدة الخطورة، وهذه حقيقة قد تُطمئِن إلى حدٍّ ما، لكنه يظل تساؤلًا مُرًّا: هل يجب أن يكون الاطمئنان مرتبطًا بالانتظار؟ وهل طولُ أمدِ الإنقاذ علامةُ صحة أم علامةُ عجز؟
اللافت أن هذا المشهد أصبح جزءًا من التجاذب السياسي بين الأحزاب. فهناك مَن يرى أن الحل يكمن في فتح الباب أمام خصخصة أوسع للقطاع، لتخفيف العبء عن NHS عبر شراكات مع القطاع الخاص على غرار التجربة الأميركية. وهناك مَن يتمسّك بالقطاع العام ويدافع عنه باعتباره آخر ما تبقّى من منظومة العدالة الاجتماعية في بريطانيا، لكنه يعترف بأن الحفاظ عليه يتطلّب شيئًا واضحًا وسهل الفهم: تمويلًا أكبر، وسعةً أكبر، ومواردَ بشريةً أكثر. وفي الوقت نفسه، يخرج بعض المسؤولين ليحمِّل المهاجرين واللاجئين مسؤولية زيادة الضغط على النظام الصحي، رغم أن دراسات متعددة –من مراكز بحثية وحقوقية– تشير إلى أن المشكلات الحالية ترجع في الأساس إلى تراكمات ما بعد الجائحة، ونقص الكوادر، وتراجع الاستثمار في البنية التحتية الصحية.

لا أنكر أنني –مثل كثير من العرب في بريطانيا– ما زلت أرى في NHS نموذجًا فريدًا للإنصاف؛ فأنت تنتظر طويلًا، نعم، لكنك تعلم أن لا أحد يمكنه التقدّم عليك إلا إذا كانت حالته أخطر. الطبيب، والممرّض، وحتى الحارس على الباب؛ كلهم يخضعون لمنظومة فرز دقيقة لا تعطي امتيازًا لعرق أو جنسية أو قدرة مالية. هذه مساواة تحتاج إلى حماية، لا إلى تفكيك.
لكن الإنصاف وحده لا يعالج المرض، ولا يختصر الطوابير. ما يحتاجه النظام اليوم هو تخطيط بعيد المدى: زيادة جادّة في ميزانية الصحة، وتوسيع دور الرعاية الأولية بدل ترك كل شيء للطوارئ، وتوظيف عدد أكبر من الأطباء العامّين والممرّضين، بدل الاكتفاء بتبريرات أصبحت مكرورة. فمن غير المنطقي تحميل الهجرة عبء التراجع، في وقت تُظهر فيه البيانات أن ارتفاع الطلب كان متوقَّعًا منذ سنوات بسبب الشيخوخة السكانية وتراكُم الحالات المؤجَّلة خلال جائحة كورونا.
ولعلّ أكثر ما يؤلمني –كمتابع للشأن العام– هو أن الأزمة لم تعد فقط صحية، بل باتت تُستغَل سياسيًا. فحين يصبح انتظار المريض مادة للتجاذب الإعلامي، وتصبح قوائم الانتظار أداة لخطاب يميني يلوِّح باللاجئين كسبب جاهز لكل مشكلة، عندها ندرك أننا لسنا أمام أزمة أرقام فحسب، بل أمام أزمة رؤية.
إن مستقبل NHS يجب أن يُبنى على قناعة أساسية: أن الصحة ليست سلعة تُباع وتُشترى، بل حقٌّ إنساني. الحفاظ على هذا الحق يتطلّب شجاعة سياسية، واستثمارًا حقيقيًا، وانحيازًا للناس لا للميزانيات الضيقة. نحن بحاجة إلى أن نقول بوضوح إن الإنقاذ الحقيقي للقطاع لا يأتي بتجزئته أو خصخصته، بل بتقويته وإعادته إلى مكانته الطبيعية: ركيزة من ركائز الأمان الاجتماعي في هذا البلد.
وربما، ونحن نجلس في ممرّات المستشفيات ننتظر دورنا، ندرك أن الأزمة –رغم قسوتها– تذكّرنا بأمر إيجابي واحد: أننا متساوون أمام الألم، ومتساوون أمام الحق في العلاج. لكن المساواة يجب ألّا تكون بين من ينتظر ومن ينتظر، بل بين من يحصل على العلاج فور حاجته… ومن يحصل عليه بعد فوات الأوان.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المنصة
الرابط المختصر هنا ⬇



